|
|

نورالدين عيوش.. أَحَـشَفَـاً وَسُــوْءَ كِيلة؟
أ.د. محمد البكّـاء
العربيةُ لغةٌ كريمةٌ لأمةٍ عظيمة، قدّر الله لها سبحانه: الرِّفعة،وعلو المزلة، إذْ أنزل كتابه العزيز بلسان عربي مبين،ليصدح بالحقِّ، وليخرج النّاس من الظلمات إلى النور، وقد حافظت هذه اللغة على قوامها، ونظامها بفضلٍ من الله سبحانه:" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ".( الحجر9)، وبتراثها الأدبي الضَّخم، وبغيرةِ أهلهِا عليها،
وبتسابقهم في الذودِ عن حياضها، لتظل كما شاء الله لها: نقيةً من الشّوائب، عليـّة المكان، لايعرض لها تثريب أو تأنيب.جاء في حديث مرفوع عن علي بن عبد اللَّه بن عباس عن أبيه عن جده العباس ، قال: " قلت يا نبي اللَّه ، ما الجمال في الرجل، قال : فصاحة ُ لسانه ". وعن الزهري عن سالم عن أبيه ، قال: مرَّ عمر بقوم يرمون، فقال: بئس ما رميتم ، فقالوا: إنا متعلمين ، فقال عمر:" واللَّه لذنبكم في لحنكم أشد عليَّ من ذنبكم في رميتكم ، سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقول: رحم اللَّه إمـرأ أصلـحَ من لسانه".وأوصى بعض العرب بنيه، فقـال: يابَنيَّ،اصلحـوا ألسنتكم، فإن الرّجل تنوبه النّائبـة،فيتجمل بها، فيستعير من أخيه دابته، ومن صديقه ثوبه، ولا يجـدُ من يعيره لسانه.
لقد تعامل العرب مع لغتهم بمحبة لاتداتى، وبهمةٍ لا تُبارى،ذلك أن الله سبحانه قد قرنَ ذكرها بقرآنه المجيد، قال تعالى:" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّـًا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ".( يوسف2)، وتكرر مثل هذا الإقتران في خمس سور بينات،
هي: (طه 113)، (الزمر28)، (فصلت 3)،(الشورى7)،( الزخرف3)، ثم أشار سبحانه إلى حال كتابه المبين، وصفته، بقوله جلّ جلاله:" وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ".(الأحقاف12)، وليؤكد صفته في سورتين أخريين:" بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ".( الشعراء195)،" "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ". (النحل103)، وقد كان سلف الأمة وقادتها يحرصون على التوعية بأهمية الاهتمام بالعربية لكل أحد، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة».
وروى أبو بكر الأنباري في «إيضاح الوقف والابتداء» أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري- رضي الله عنهما-أن مر من قبلك بتعلم العربية فإنها تدل على صواب الكلام.
وعن أبي العالية قال: «كان ابن عباس يعلمنا اللـَّحن» قيل: يعلمنا الصواب، وقيل: يعلمنا الخطأ لنجتنبه.
وعن الحسن البصري أنه سئل: ما تقول في قوم يتعلمون العربية؟ قال: «أحسنوا يتعلمون لغة نبيهم».
وأنشد أبو العباس المبرد (توفي عام 286 هـ/899 م) :
النـَّحو يبـسط من لسان الألكن * والمـرء تعظمــه إذا لـم يلحـن
فإذا أردت َ من العلـوم أجلهـا * فأجلها منها مقيم الألســــــن.
قال: أبو منصور الثعالبي(المتوفي 430هجـ) في مقدمة كتابه( فقه اللغة وسرّ العربية):" من أحب الله تعالى أحب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، ومن أحبَّ الرسول العربي أحبَّ العرب، ومن أحبَّ العرب أحبَّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحبَّ العربية عُنيَ بها، وثابر عليها، وصرف همَّته إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه حسن سريرة فيه، اعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ثم هي لإحراز الفضائل، والاحتواء على المروءة وسائر أنواع المناقب، كالينبوع للماء والزند للنار. ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها ومصارفها والتبحر في جلائها ودقائقها، إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة، لبتي هي عمدة الإيمان، لكفى بهما فضلا يَحْسُنُ فيهما أثره، ويطيب في الدارين ثمره، فكيف وأيسر ما خصَّها الله عزَّ وجلَّ به من ضروب الممادح يُكِلُّ أقلام الكتبة ويتعب أنامل الحسبة.
لقد عرف العربُ قيمةَ لغتهم، ورقيها وجمالها فحرصوا على جودتها لتكون السِّلاح الذي يشهرونه في وجه أعدائهم، ناهيك عن كونها إحدى المفاخرالتي يباهي بها الرّجل قومه، وبذا قال شاعرهم:
إمـا تـَريني وأثـوابي مقاربة* ليستْ بخـِزٍ، ولا من حُرِّ كَتان
فإنَّ في المجد همّاتي،وفي لغتي * عِلـْويةً ولساني غيـرُ لَحَـان
إلا أنّ هذا الحال لم يدم كثيراً بعد أن لحق اللغة العربية الكثير من الحيف الذي لم تعرفه لغة من قبل،فقد اجتمع عليها الأعداء وبعض الأبناء– لافرق بينهم- وإن اختلفت مسالكم، وتباينت وجهات نظرهم، وترادفت عليها نوائب الزّمان، وكابدت من الأخطار ما صعب حصره، وعظم أثره لذا كان لابد من وقفة جادة،والعمل على سنِّ تشريعات تصون حرمةَ اللـّغة، وتعنى بها لقيمتها العظيمة في كونها (هوية الأمة)، وتدارك حالها مما ألمَّ بها،وتيسير سبل نهوضها،وهي أحوج ما تكون في أيامنا هذه إلى مزيدِ رعايةٍ، وفضل عنايةٍ، ولنا وطيد الأمل في (المجلس الدّولي للغة العربية)، لما يمتلكه من حضور فاعل،وهمـّة لا تعرف المهادنة، أو الفَتْر،ونحنُ ولغتنا نواجه تحدياتٍ جمَّة لعل أخطرها مؤخراً ماقام به المدعو: نور الدّين عيوش – رئيس مؤسسة زاكورة المغربية، الذي وجه مذكرة غاية في الوقاحة إلى الديوان الملكي المغربي، فضلاً عن رئيس الحكومة، ووزير التربية الوطنية، وباقي وزراء الحكومة،والأحزاب والجمعيات المدنية المهتمة بقطاع التعليم جميعا، وقد تضمنت المذكرة - السيئة الذكر- التي تمخضت عن ندوة دولية نظمت من طرف مؤسسة " زاكورة " التي يرأسها عيوش، المقرب من دوائر صنع القرار: مطالبته بإصلاح التعليم في المغرب، وذلك بإعتماد (الدّارجة) في التعليم بدلَ الفصحى، وكما نصـّت المذكرة على: البدء في المراحل الأولية بالاقتصار على تعليم الأطفال بلغتهم الأم، ثم تتحدث عما نسميه "اللغة المغربية" في إشارة إلى الدارجة، كما ذهبت توصيات الندوة إلى: أن اللغة الانجليزية يجب أن تصبح لغة العلوم، والتقنيات في المسار التعليمي بكامله، عوض الوضع الحالي الذي يبدأ بتلقين الأطفال هذه المواد باللغة العربية، ثم ينتقل إلى اللغة الفرنسية في التعليم العالي.
واعتبر "نور الدين عيوش"، أنَ أول ما يجب الشروع به فوراً ،والعمل عليه تعميم التعليم الأولي بإعتبار أنه مرت 15 سنة ونحن نتحدث عن هذا الهدف دون أن نحققه، وسبق لنا أن تحدّثنا عنه رفقة الراحل مزيان بلفقيه سنة 1999، مُضيفاً، واليوم نحن نطرح الفكرة،، وقدّمنا صيغة سهلة لتمويلها حيث لا يبقى الأمر عبئاً على الدولة وحدها، بل يساهم فيه حتى المجتمع والقطاع الخاص.
وأكد "عيوش:" أنَ التعليم الأولي اليوم هو في مجمله تقليدي ويقتصر على الكتاتيب وبعض الأمور المشابهة، بينما التعليم الأولي لا يجب أن يبقى دينيـاً فقط، بل على أطفالنا أن يتعلموا الحياة ويغنوا، وينشطوا، ولا نوجههم إلى الحفظ فقط ".(انتهى)
لقد باتت فكرة اعتماد( الدارجة- العامية) كلغة للمدرسة المغربية، وإخراج التعليم الأولي من طابعه الديني المتمثل في الكتاتيب، توصيات رسمية تتضمنها وثيقة صادرة عن ندوةٍ دولية رُفعت إلى أعلى سلطات المملكة، وهذا ما حفز الغيارى في المغرب الشقيق،والعديد من الهيئات والمنظمات السياسية والثقافية الى إشهار(الورقة الحمراء) في وجه عيوش رئيس مؤسسة زاكورة، لأنّ ماجاء في مذكرته هو وجه آخر من وجوه الإستعمار اللغوي، فضلاً عن كونه موقفاً غير أخلاقي،وغير وطني لأنه يستهدف الأمة في هويتها التي عُرفت بها، والنيل من أعـزِّ مقدساتها، واستهانة بالشعب المغربي في اختياره الثابت وتصويته على الدساتير المتوالية بخصوص الهوية واللغة.
يضاف إلى ذلك أن عيوش رجل أعمال ومقاولات. وليس أكاديميا،ولا هو برجل لغة مختص في اللسانيات حتى يفتي في قضية لغوية ولسانية.لأن اعتماد ( الدّارجة) في التعليم لايسهم في التنمية، أو تقريب المعلومة من المواطن كما يشاع، بل هو محاولة بائسة لتسطيح الوعي الوطني – القومي، وربطه بالمركز الفرنكفوني، وأن الدفاع عن (الدارجة أو اللهجة المغربية) ليس إلا جبل الجليد الذي يخفي الحقيقة، حقيقة محاولات التجزيء والتجهيل، واستبدال القيم المرتبطة بها من دين، وعقيدة وكل العناصر المشتركة في النسيج الإجتماعي،وسحق السواد الأعظم من المغاربة، وتجهيلهم لتبقى لنخبة البعثات الأجنبية ذات الحظوة، الامتيازات نفسها.
إنَّ أبسط ماتعنيه هذه الدعوة الخبيثة هو فك ِّالإرتباط، والتلازم بين اللغة، وتراثنا الخالد، لأنّ الإستهانة بالعربية،ومحاربتها هي من مظاهرالحرب المعلنة على الإسلام تحت عنوان: التعليم الديني، لذا فإن خطورة الأمر لاتكمن في أبعاد إستهداف اللغة وحدها،إذْ يتعدى ذلك إلى العقيدة المرتبطة بها،فاللغة مرتبطة بالفكر، كما أنها وسيلة للتعبيرعنه،وبذا كانت العربية ثابتاً من ثوابت الهوية الحضارية للأمة،وقد أكد الباحثون: مخاطر تعليم لغة أجنبية على اللغة الأم (العربية ) في المجتمعات العربية خاصة في مرحلة الطفولة، إذ تلعب اللغة الأم (العربية )،والأجنبية دوراً في غاية الأهمية من حيث تأثير كل منهما على تكوين ثقافة الطفل المتلقي، وتشكيل آليات التفكير لديه حيث يُنْظَر إلى اللغة- عموما- على أنها أداة تواصل وتخاطب تميز العنصر البشري،وهذا ما أكده علم اللغة الاجتماعي أيضاُ، لأنَّ اللغة تمثل أقوى رابطة بين أعضاء المجتمع الواحد فهي رمز حياتهم المشتركة الذي يسهم في تعزيز العلاقات الاجتماعية الأخرى،وتنمية أسس العلاقات المختلفة،وبهذا نرى أن إحدى وظائف اللغة الرئيسة: تحقيق الترابط بين أجيال المجتمع الواحد عن طريق تبادل الثقافات ،والخبرات .
إنَّ ندوة عيوش،ودعوته هذه ليست جديدة في بابها، فقد سبقتها دعوات مماثلة في مشرق الأمة، وأن ماجاء به عيوش مؤخراً هو إمتداد لندوة عن (الدارجة واللغات) نظمها في سنة 2010 في الدار البضاء، وبهذا يمكن وصف عيوش: أنه رأس الحربة لتيار فرنكفورني يشتغل من أجل الاجهاز على اللغة العربية بأي طريقة كانت،وأن دعوته هذه تعود في جذورها إلى بداية الاستعمار الانجليزي، والفرنسي لأقطار أمتنا العربية في القرن التاسع عشر من أجل إبادة اللغة العربية في كل المجالات ثم انتقلت إلى المغرب في عهد الحماية وتبناها عدد من المستشرقين، وكان الهدف منها محو اللغة العربية الفصحى. ويرى أحد الباحثين المغاربة: أن توصية عيوش مصدرها مغاربة فرنكفونيين يجهلون العربية، وفرنسا هي من وراء هؤلاء، وقال إنه له إثبات ومعلومات حول بعض الأساتذة الفرنسيين ومنهم «مدام كوبي Mme Coby»، وبن صليلة، وكلود حزيس، وقال إن هؤلاء كانوا يأتون إلى المغرب وفي كثير من الأحيان، وكان عيوش هو من يهتم بهم،وأنَّ الفرنسيين أصحاب هذا التوجه،لايرون أن ّعلى فرنسا أن تدرس دارجتها «Lalangue familière» في مدارسهم، ومعاهدهم، وهي اللغة التي يتكلمها الطفل الفرنسي في منزله.أما في ما يتعلق بالدعوة إلى تقليص دور الكتاتيب في التعليم الأولي فالمراد إجتثاث الحس الديني من التعليم الأولي.
حمى الله سبحانه العربية من كُلِّ كيـدٍ يُراد بها، وحسبنا قوله تعالى:"إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ".
|
|
|
|
|