|
|
اللغة العربية والإنترنت - مزانق ومخانق
د. رمضان أحمد عامر
تعرضت اللغة العربية عبر تاريخها الطويل لمحاولات كثيرة؛ للتغريب وإخلال نظامها اللغوي الموروث عن الأجداد بمستوييه الكتابي والصوتي الملفوظ بشكل مباشر، كما تعرضت بشكل غير مباشر لشيء من الخلل في نظامها التعبيري والضعف والوهن في لغة أبنائها، وظهرت مجموعة من الكتب التي عالجت مثل هذه المآزق والمزانق التي تعرضت لها العربية عبر مجموعة من المصنفات والمؤلفات التي عالجت ذاك الوهن والضعف بتقعيد قواعدها وتأصيلها ومعالجة ما تسرب من ضعف ووهن في لسان أبنائها ككتاب إصلاح المنطق لابن السكيت، وأوهام الخواص، وما تلحن فيه العامة وغيرها.
وفي العصر الحديث تعرضت العربية لحملات كثيرة في محاولة للنيل من رسمها الموروث الذي دونت به درر تراثنا اللغوي والفكري والعلمي؛ فقد ظهرت دعاوى كثيرة لتغيير الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني أو استبدال الفصحى بالعامية، دعاوى تبناها الاستعمار وحماها وساندها وآواها، وجاء أصحابها بما لم ينزل به سلطان في محاولة للقفز على تراثنا والسطو عليه للنيل من رسمها وإرثها، ومن المؤسف حقًّا أن بعض أبناء العربية المستغربين قد تبعوا هذه الدعاوى وصاروا أبواقًا تدعو إليها وتتبناها، وهذا مما يدمي القلب ويدمع العين.
ولقد انتهيت من التنبيه على مزلق تمرُّ به العربية في العصر الحديث على الشبكة الدولية للمعلومات عبر مواقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك وتويتر ومواقع المحادثات الشبابية، ألا وهو استخدام الشباب لتقليعة كتابية جديدة تعتدي على الرسم العربي وتشكل خطورة كبيرة على الموروث العلمي والثقافي واللغوي، وذلك من خلال استخدامهم ما أسميته تجاوزًا (الخط الرقمي)، وهي ظاهرة تستخدمها فئة عمرية ما بين الثالثة عشرة والثلاثين وهي مرحلة عمرية خطيرة ما زال أصحابها في إطار البناء والتكون الفكريين، ولقد عالجت تلك الظاهرة ببحث– عرضته بمؤتمر قسم اللغة العربية بجامعة قطر- وقف على أصولها ودرس أسبابها وبيّن مخاطرها ونبّه عليها، ثم قدمت حلولاً لها وأشرت إلى طرائق علاجها.
وما كدت ألتقط أنفاسي من تتبع تلك الظاهرة التي تمثل مخنقًا من مخانق لغتنا الفصحى على المستوى الكتابي مما قد يصيب أبناءها بالعجمة ويصنع هوة عميقة بينه وبين تراثه الثقافي والعلمي المكتوب بالحرف العربي الموروث حتى رأيت تقليعة شبابية- إذا جاز لنا هذا التعبير- أخرى جديدة ممنهجة تلوح في الأفق لتخترق حاجز الصوت في لغتنا، وتمثل مخنقًا أشد خطورة على أهم جانب في لغتنا وهو الجانب الصوتي والملفوظ منها، وهو جانب مهم في لغتنا التي هي لغة شفاهية صوتية سماعية في الأساس، هذه التقليعة الشبابية الخطيرة راحت تنتشر على مدونات الفيس بوك كالنار في هشيم العربية وأصولها الصوتية، وأهم تلك المدونات صفحة شبابية بعنوان (أساحبي)، وهي صفحة تسعى لنشر تلك التقليعة اللغوية الخطيرة وتعليم أصولها لمرتاديها، ويشرف على إدارتها مجموعة من الشباب، تم إنشاؤها بتاريخ 17-4-2012م، ومع ذلك فإن عدد المعجبين من الشباب العربي بما تقدمه من ألفاظ وصياغات لغوية ماسخة سمجة قد وصل في فترة وجيزة لا تتجاوز شهرًا واحدًا -حتى كتابة هذا المقال- إلى 155 ألف معجب والأعداد في تزايد مستمر.
وهي تدوينات تعتمد في الأساس على هدم البناء الصوتي للغة العربية حيث يتم قلب صفات الأصوات العربية ومخارجها عبر تداول الحديث بين روادها، فيتم تغيير الحروف المجهورة وقلبها إلى حروف مهموسة، وتبديل الحروف المفخمة بحروف مرققة ناهيك عن مزجها بالكلمات اللاتينية والعامية؛ فعلى سبيل المثال يقولون:(السوجارة مدرة بالسحة وتسبب الويفاة أساديقي)، و(أنت تعليكك عثل عثل)، (الإستورة بتئول إيه) و(لو بتلوك لوك إنت وساحبك أساحبي وفجأتن نطكتوا نفس زات الكلمة مع بعضشيكم يوبئى فيه حد هايفتن عليكوا أساديكي)، وهذا الفعل يقلب نظام الخط العربي للغة ونظامها الصوتي رأسًا على عقب، ويمثل مخنقًا خطيرًا ومزلقًا عميقًا يؤثر بشكل كبير على لغة شبابنا، ويهدد هويته.
وبدأ يتوالد عن تلك الصفحة الرئيسة عدد من الصفحات الأخرى تسير على النهج نفسه، وكل صفحة منها جذبت إليها آلاف المعجبين مندفعين برغبة فضولية للتعرف على تلك اللغة الشبابية الجديدة والخطيرة في الآن نفسه، والبحث عن النكات الطريفة.
ومن المؤسف حقًّا أن بعض الذين وجهوا النقد لأصحاب تلك الصفحات وما يدونونه على صفحاتهم يستخدم لغة أسوأ من لغتهم؛ فأحد ناقديهم يقول على إحدى صفحات الفيس بوك معلقًا على لغتهم: عن كوميكس «أساحبي» أتحدث. ويقول: عندما أشاهد الكوميكس عن العيال.. اللي بييقولوا «أساحبي» بأفطس من الضحك. ومن الخطير في الأمر أنه يقول معرفًا لصفحته: «مدونة مصرية يؤمن صاحبها بأن أي حاجة نكتبها مهما كانت تافهة تثري التراث الإنساني.. لأنها في النهاية تضيف.. ولهذا أنا أكتب»، وهو لا يعلم أنها قد تكون طعنة نافذة في خاصرة التراث والعربية.
إن هذه التدوينات الساخرة تجذب الشباب بالمادة الترفيهية التي تقدمها من نكات ساخرة إلا أن خطورتها تتمثل في التعدي على اللغة العربية وأصولها، ولقد وجّه بعض الشباب الواعي لأصحاب تلك الصفحات انتقادات حكيمة من خلال تنبيه أصحاب تلك الصفحات على خطورتها وتهديدها للغة العربية؛ فتملص مديروها من تلك الاتهامات مدعين أن صفحاتهم لا تستطيع أن تهزم العربية التي لم يهزمها الاستعمار؛ وهي كلمة حقٍّ يراد بها باطل فلقد دعا الاستعمار أبناء العربية لاستخدام مثل تلك اللغة في السابق وفشل بالفعل، ولكن استخدام شبابنا اليوم لمثل هذه اللغة وإعادة نشرها والحرص على تعريف غيرهم بأصولها وتهافتهم عليها، هو مزلق جديد من المزالق التي تتعرض لها لغتنا وتهدد استقرارها المكتوب والملفوظ لدى أبنائها، وإعادة استخدام لأدوات صنعها المستعمر في السابق خاصة أن أبناء العربية قد تسرب الضعف كثيرًا إلى ما يكتبونه وما يلفظونه من كلماتها وتعبيراتها؛ فهي تضعف الضعيف وتوهن الواهي الذي نبحث عن طرائق لعلاجه في الأساس، وتضعف جهاز المناعة اللغوية لدى شبابنا، وتهدم ما تبنيه مؤسساتنا التعليمية.
|
|
|
|
|