من ميزات وجماليات اللغة العربيّة
أ. سعاد حويجة
قال الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام ): " تعلّموا العربيّة فإنّها لسان الله الذي يخاطب به الناس يوم القيامة " .
اللغة العربيّة لسان الله .... يؤكّد هذا الآية الكريمة : ( وعلّم آدم الأسماء كلّها) {البقرة/31} فالله سبحانه وتعالى علّم آدم اسم كلّ شيء في الكون, ثم هبط إلى الأرض, يعني هذا أنّ اللغة العربيّة هي أقدم لغة حيّة على وجه الأرض، وبالتالي هي الحاملة لتراثنا وتاريخنا وثقافتنا,وليس هذا فحسب بل هي حاملة لمشاعل حضارات قديمة رفدت الفكر الإنسانيّ بعلوم ومعارف شتى، ونقلت تراث حضارات إنسانيّة كاليونانيّة والهنديّة والفارسيّة, وقدّمته منارات معرفة تنعم بنورها البشريّة جمعاء .
وهي لغة طقسيّة رئيسة لدى عدد من الكنائس المسيحيّة في العالم العربيّ, كما كتب بها الكثير من أهم الأعمال الفكريّة اليهوديّة في العصور الوسطى،وهي استمرار لحضارات كانت الأسبق: كالفينيقيّة والكنعانيّة والكلدانيّة والآشوريّة, وفي زمن مبكر مهّدت لاختراع الأبجديّة( أبجديّة أوغاريت) التي صُدّرت إلى العالم أجمع. ولعلّ اسم أكاديموس مهما كان؛ مشتقٌ أصلاً من قدموس أو من أكّاد, وهو نموذج حيّ لمكانة اللغة الأكاديّة, ويعترف اليونان أنّ قدموس الفينيقيّ هو الذي علّم اليونان الكلام, وبالتالي فإنّ ما يطلق عليه اليونان اسم (التعليم الأكاديميّ) هو اسم مشتق أصلاً من اللغة العربيّة الفصحى بشكلها وصفتها الأكاديّة, وهذه اللفظة أطلقت على كلّ التعليم في كلّ أنحاء العالم بعد ذلك ؛إقراراً واعترافاً لما ورد في كلّ الحضارات القديمة, التي تقول بفضل الأكاديّة على علومها ,وفي ثنايا نصوص القرآن الكريم نجد ما يشير إلى شموله التراث الأكاديّ.
وللعربيّة في جوهرها خصائص وميزات, فقد حباها الله سبحانه أحسن المَلَكَات وأوضحها إبانة عن المقاصد, وملّكها أوسع مدرج صوتيّ عرفته اللغات, حيث تتوزّع مخارج حروفها بين الشفتين إلى أقصى الحلق. في حين نجد في لغات أخرى غير العربيّة حروفاً أكثر عدداً ولكنّ مخارجها محصورة في نطاق أضيق, ومدرج صوتيّ أقصر, كأن تكون مجتمعة متكاثرة في الشفتين وما يليهما من الفم(كالفرنسيّة مثلاً")، ونجدها متزاحمة من جهة الحلق ,في حين تتوزّع مخارج الأصوات العربيّة في هذا المدرج توزّعاً عادلاً, يؤدّي إلى التوازن والانسجام بين الأصوات .
وقد راعى علماء العربيّة قديماً مسألة اجتماع الحروف في الكلمة الواحدة, وتوزّعها وترتيبها فيها, فحرصوا على تحقيق الانسجام الصوتيّ,والتآلف الموسيقيّ فكانت عندهم ظاهرتا الإعلال والإبدال ,واحتلتا بحثاً مهماً جداً في اللغة العربيّة. فهو يرجع في أساسه إلى ظاهرة صوتيّة تحكمها قوانين بالغة الدقّّة تستهدف التجانس الصوتيّ, بين حروف الكلمة الواحدة, أو بين الكلمتين المستقلتين في بعض الأحيان .
فلو قلنا : اضترب ، واصتبر ، واطترد ، واظتلم . لرأينا صوت التاء لا يجانس أصوات الضاد والصاد والطاء والظاء لبعده عنها في طبيعته, ولذلك استبدل به المتكلّم العربيّ حرفاً يلائم هذه الأحرف فقال:
اضطرب ، واصطبر ، واطّرد ، واظطلم .
لأنّ هذه الطاء التي حلّت محلّ التاء ,أقرب إلى تلك الأحرف في طبيعتها الصوتيّة,ويحقّق انسجاماً بين حروفها. وأمثلة أخرى لإبدال حرف التاء دالاً ,عندما تجتمع مع الزاي والذال والدال للغاية نفسها,وكذلك اعتاد العربيّ القديم أن يحوّل الواو إلى ياء في مثل : (مِوزان ، قِوْمة )
لأنّه لم يستخفّ لفظ الواو الساكنة بعد الكسرة فقال :
( ميزان ، قيمة).
وكذلك يجعل الواو ياءً كلّما اجتمعت هي والياء في كلمة واحدة ,وكانت أولاهما ساكنة سكوناً أصليّاً فقال : مرميّ لا مرمويّ . وقد ردّ علماء اللغة هذه الظاهرة إلى قانونين كبيرين من قوانين الخاصّة الصوتيّة للغتنا, هما قانون المماثلة وقانون المخالفة .
فقانون المماثلة : يعني أن يستبدل المتكلّم بالحرف المخالف للحرف المجاور له حرفاً يجانسه ويماثله في الصوت كما رأينا في الكلمات السابقة :
(اصطبر ، ازدجر) فأصلهما:( اصتبر ، ازتجر).
أما قانون المخالفة : وهو عكس السابق فكثيراً ما يكون الثقل في الكلمة ناجماً من تماثل حرفين متجاورين, وحينئذ يكون تخفيفه باستبدال أحدهما بحرف مخالف في المخرج والطبيعة الصوتيّة، من ذلك أنّهم طوّروا لفظ الكلمات الآتية :
(دنّار ، قرّاط ، دوّان) فقالوا : (دينار – قيراط – ديوان ).
فهم حذفوا أحد الحرفين المدغمين في كلّ كلمة, وأتوا بالياء بدلاً منه وهذا يوفّر للكلمة صوتاً خفيفاً ,إذا هو قيس إلى الصوت الذي كانت عليه .
وهنا نقف عند هذين القانونين ( المماثلة والمخالفة )لنرى مدى ارتباط اللغة العربيّة بالحياة والطبيعة, فهي مثلهما مزيج من المتناقضات, تجتمع لتشكّل كلاً متآلفا منسجماً يؤدّي وظائف حيويّة, مثلها مثل الكائن الحيّ . يقول الأستاذ (زكي الأرسوزي)في كتابه (العبقريّة العربيّة بلسانها ):( إنّ اللسان العربيّ بمبدئه(المعنى)
وتجلياته (الأصوات ) هو على غرار البدن شجرة سحريّة نامية جذورها في الملأ الأعلى المعاني وتجلياتها في الطبيعة ).
هذه التجليات الصوتيّة في لغتنا لها وظيفة بيانيّة, وقيمة تعبيريّة, فالغين مثلاً تفيد معنى الاستتار والغيبة والخفاء كما نلاحظ في : غاب – غار – غاص – غام . والجيم تفيد معنى الجمع: جمع – جمل – جمر – جمد ..... وهكذا .
وإلى جانب هذه الميزة الصوتيّة للغتنا هناك أيضاً ميزة أخرى هي :
- الذخيرة اللغويّة : فاللغة العربيّة تفوق بغناها أيّة لغة ساميّة أخرى ولا إسراف في القول: إنّ معجم العربيّة من أضخم المعجمات, وإنّ المرء ليقف معجباً حائراً أمام هذا البحر من الألفاظ , وهذا الغنى في المترادفات والأوصاف و المصاحبات, ما دعا الألماني فريتاغ إلى القول: " اللغة العربيّة أغنى لغات العالم " .
ولهذه الكلمات والألفاظ التي تزخر بها العربيّة أبنية, وللأبنية وظيفة فكريّة منطقيّة عقليّة,حيث اتخذ العلماء في لغتهم للمعاني العامّة ,أو المقولات المنطقيّة قوالب أو أبنية خاصة:
الفاعليّة – المفعوليّة – المكان – الزمان – السببيّة – المشاركة ...
هذه الأبنية تعلّم تصنيف المعاني، وربط المتشابه منها برباط واحد ويتعلّم أبناء العربيّة المنطق والتفكير المنطقيّ مع لغتهم بطريقة طبيعيّة فطريّة .
ولها أيضاً أيّ ( الأبنية) وظيفة فنيّة, فقوالب الألفاظ وصيغ الكلمات في العربيّة أوزان موسيقيّة, فالقالب أو البناء الدالّ على الفاعليّة من الأفعال الثلاثيّة له وزن فاعل, والدالّ على المفعوليّة له وزن مفعول, وهكذا ولكلّ وزن نغمة موسيقيّة ثابتة. وإنّ بين أوزان الألفاظ في العربيّة ودلالاتها تناسباً وتوافقاً, فصيغة ( فعّال) لمبالغة اسم الفاعل تدلّ بما فيها من تشديد الحرف الثاني على المبالغة والكثرة، وبألف المدّ التي فيها على الامتداد والفاعليّة الخارجيّة .
هذا الإيقاع الموسيقي يميّز الألفاظ العربيّة, فجميعها ترجع إلى نماذج من الأوزان الموسيقيّة التي استثمرها الشعراء والكتاب فكانوا يترنّمون بأشعارهم,حتّى سمّي الشاعر مغنّياً. فالشاعر الأعشى الملقّب بصنّاجة العرب كان لشعره وقع في النفس وأثرٌ في الناس, لما يجمع فيه من طلاوة الأسلوب, وعذوبة الألفاظ وحسن وقعها, معتمداً في أدائها على الموسيقى الشعريّة كقوله في وصف فتاة مترفة :
غرّاء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل
كأنّ مشيتها من بيت جارتــــــــها مــــــــرّ الســـــحـابة لا ريـث ولا عجل
تسمع للحليّ وسواساً إذا انصرفت كما استـعـان بريـح عشــــــــرق زجـــل
ألا تجعلنا هذه الأبيات والبيت الثالث خاصة, نصغي بكمال أسماعنا إلى تلك الموسيقى الرائعة التي تنبعث من مجوهرات تلك الفتاة, وليس هذا فحسب بل تنقلنا إلى أجواء الطبيعة، كي نصغي إلى الموسيقا المنبعثة من الحبات الصغيرات الجافات في شجيرة العشرق، عندما يداعبها النسيم فتصدر خشخشة لطيفة ممتعة، التقطها الشاعر المبدع وربطها بوسوسة الحليّ, فكان هذا اللحن الجميل الذي ساهمت في عزفه ,الحروف الهامسة المنسجمة والموزّعة على البيت توزيعاً حسناً ,عبر الألفاظ ذات التركيب المنسجم أيضاً .
هذه الخاصة الموسيقيّة تبلغ ذروتها في التركيب القرآنيّ, فأنت تحسّ في سورة العاديات عدو الخيل : " وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا , فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ,فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا".{العاديات}
وإذا كانت الموسيقا أحد عناصر الجمال في لغتنا العربيّة, فهناك خاصة أخرى تضيف إليهاجمالاً على جمالها وهي:
- التصعيد : وهو قدرة اللغة على التجريد, أيّ تجريد الصورة الماديّة ونقلها إلى صعيد معنوي, وبكلام آخر الصعود باللفظة من معناها الحسيّ إلى المعنويّ, وهذه صفة تتصف بها كلّ لغة حيّة راقية, و العربيّة أرقاها ، فمثلاً :( قرن النفس بعملية التنفس ، والروح بالريح والهواء و....... ).
بالإضافة إلى الصور الفنيّة الرائعة التي يزخر بها الشعر العربيّ والتي تنقلك من عالم المحسوسات, إلى عالم المعنويات والمجردات, وتعمل العقل والخيال في تقصّي ملامح الصورة التي أبدعها شاعرٌ وهبه الله استعداداً سليماً في تعرّف وجوه الشبه الدفينة بين الأشياء, وأودعه قدرة على ربط المعاني, وتوليد بعضها من بعض إلى مدى بعيد لا يكاد ينتهي . يقول الشاعر بدر شاكر السّيّاب مخاطباً أنثى مجهولة الهويّة :
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء ..... كالأقمار في نهر
يرجّه المجداف وهناً ساعة السحر
كأنّما تنبض في غوريهما النجوم
فكم هي بعيدة تلك المعاني التي حملتها هذه الصور ؟! وكم سيكون عدد درجات السلّم الذي سنرتقي, لنصل صعوداً أو تحليقاً أو ربّما غوصاً إلى مكنوناتها ؟!
|