|
|
تدريس المعجم والتربية على المواطنة وقيم المجتمع: مدخل للتفكير
أ. منصور الشتوي
1.تمهيد:
تمثّل هذه الورقة، كما يبدو من عنوانها، تقاطعا بين مبحثين مبحث لسانيّ يُعنى بالمعجم موضوعا تعليميّا ومبحث اجتماعيّ قيميّ يُعنى بالتربية على المواطنة وقيم المجتمع. ويرتبط هذا التقاطع بإطار أشمل هو دور تعليم اللغات في التربية على المواطنة والقيم المشتركة. وهذا من مداخل التفكير في تطوير تعليم العربيّة وتعلّمها في المدرسة.
وفي هذا السياق العامّ تحاول هذه الورقة أن تكون مدخلا لبحث موسّع هدفه الإسهام في تطوير تعليم المعجم في درس العربيّة من جهة وفي تطوير درس العربيّة عامّة من جهة أخرى.
2. في المعجم والمواطنة والقيم المشتركة:
للمعجم، في الدرس اللسانيّ المعاصر، وظيفة أنطولوجيّة، فبواسطته يحلّ الإنسان في الوجود ويعيه ويعي ذاته في إطاره. فبين المعجم والإنسان والعالم صلة وثيقة. ويعود ذلك إلى أنّ للمعجم وظيفتين أساسيّتين هما المفهمة (conceptualisation) والتسمية (nomination). وتعني المفهمة تشكيل المفاهيم في الذهن عن الأشياء والموجودات في الكون حول الجماعة اللغويّة. ذلك أنّ الأشياء والموجودات تُدرَك بالحواسّ ثمّ تتشكّل عنها مفاهيم مجرّدة ثمّ تُصاغ لها الوحدات المعجميّة المعبّرة عنها. ومن أمثلة ذلك أن يقال إنّ "هذا الحيوان المفترس المنتمي إلى نوع السباع وجنس السنّور والفصيلة السنّوريّة ورتبة آكلات اللحوم وطائفة الثدييّات، ذا اللبدة الكثيفة والثوب المائل إلى الصهبة واللون الذي يعلوه مَواج ينحرف نحو الصفرة" يُسمّى "أسدا". وللمفهمة في المعجم بعد موضوعيّ لا ذاتيّ ذلك أنّها مرتبطة بالدلالة المعجميّة وهذه الدلالة موضوعيّة لأنّ المعاني مواضعات بين أفراد الجماعة اللغويّة لأنّها ناشئة عن تجربتها في الكون وتلك التجربة مشتركة موضوعيّة وإن كان إدراك الأفراد لها مختلفا من فرد إلى آخر. وترتبط المفهمة بوظيفة أخرى عرفانيّة هي المَقْوَلة (catégorisation) وتعني تصنيف الموجودات والمفاهيم في مجاميع بحسب مقاييس محدّدة صريحة أو ضمنيّة. وتتكامل المفهمة مع التسمية. ذلك أنّ الوحدات المعجميّة لا تنهض بوظيفة المفهمة فحسب، بل هي وسائل لتسمية الأشياء والموجودات والمفاهيم أيضا. وبهاتين الوظيفتين المتكاملتين يسهم المعجم، بصفته نظاما فرعيّا من أنظمة اللغة، في تحقيق وظيفة أكبر هي التواصل بين أفراد الجماعة اللغويّة الواحدة.
إنّ المعجم إذن ذو أهمّيّة خاصّة في التواصل اللغويّ بين أفراد الجماعة اللغويّة، وهو، لذلك، من المكوّنات الأساسيّة للثقافة. ويرجع ذلك إلى بعده الموضوعيّ اللاذاتيّ. ويكتسب المعجم هذا البعد من نشأة المفردات، مكوّنات المعجم، وانتشارها بين أفراد الجماعة اللغويّة. ويتضمّن البعد الموضوعيّ في المعجم بعدا ذاتيّا يتمثّل في جملة الاختيارات التي يُجريها الفرد عندما ينتقي المفردات والعبارات والجمل للتعبير عمّا في نفسه وللتواصل مع الآخرين. لكنّه حين يختار إنّما يختار من رصيد مشترك استقرّت معانيه واكتسب قيمته من التواضع والاصطلاح.
إنّ المعجم، إذن، ثقافة وتاريخ. وتاريخ المعجم هو تاريخ المفردات واستعمالها اللذين يُكسبانها انتماء وهويّة. وللاستعمال موردان مورد موضوعيّ هو التواضع الذي أشرنا إليه ومورد ذاتيّ هو الاختيارات الفرديّة للإيحاءات والدلالات الخاصّة. ولعلّ أبرز مثال تتجلّى فيه تلك الإيحاءات الإبداع الشعريّ أو الأدبيّ عامّة. فالمبدعون يعبّرون عن رؤاهم الذاتيّة لكنّهم يستعملون رصيدا لغويّا مشتركا. وفي هذا الإطار تتنزّل الصلة بين المعجم، واللغة عامّة، والمواطنة والقيم المشتركة. فالمعجم قيم مشتركة وثقافة لكنّه لا ينفي التنوّع في الاستعمال وتلك هي المواطنة بصفتها استقلالا وتنوّعا وحرّيّة ورقابة ذاتيّة وجماعيّة.
إنّ هذا الربط الضروريّ بين المعجم، أو اللغة عامّة، والمواطنة ينهض على مفهوم مركزيّ هو مفهوم "الحقّ اللغويّ" . ويعني هذا المفهوم أن تقول الجماعة اللغويّة الوجود بلسانها الخاصّ. ونعتقد أنّ من مكوّنات هذا المفهوم الجزئيّة مفهوم "الحقّ المعجميّ" ونعني به حقّ الجماعة اللغويّة في أن تقول العالم بمفرداتها. ولا يتناقض هذا المفهوم الشامل لحقّ "المجموعة" مع حقوق الأفراد. فمن البديهيّ أن يكون لأيّ فرد الحقّ في أن يكون له معجمه الخاصّ المنتمي هو نفسه إلى معجم مجتمعه. فلا يقول فردٌ مّا الأشياء كما يقولها غيره بالضرورة إلاّ في حالات الخطاب العلميّ الدقيق. ولا شكّ أنّ لهذا أثرا مهمّا في التصوّر التعليميّ للتربية على المواطنة والقيم المشتركة من خلال تعليم المعجم.
3. في التربية على المواطنة من خلال تدريس المعجم:
للمعجم خصوصيّة في درس اللغة العربيّة، وفي غيرها من الموادّ المدرّسة بالعربيّة. ذلك أنّه عابر للفروع وليس فرعا خاصّا مستقلاّ. ولهذا أثر في تصوّرنا لتدريسه عامّة ولتوظيفه في تطوير التربية على المواطنة على وجه التخصيص. ذلك أنّنا ندرّس المعجم بطريقتين طريقة صريحة وطريقة ضمنيّة. فنحن ندرّس المعجم، أي نُغني رصيد التلاميذ من المفردات ونساعدهم على تنمية كفاءتهم المعجميّة، بصفة صريحة في مصطلحات العلوم ومنها مصطلحات النحو والصرف ومصطلحات النقد الأدبيّ... ولكنّنا ندرّس المعجم كذلك بصفة ضمنيّة. وذلك أثناء الاستعمال العفويّ للمفردات. ويرتبط التمشّيان الصريح والضمنيّ بالتربية على المواطنة. فإنّنا نربّي على المواطنة بالمضامين التي تُدرّس مثل الحقّ والواجب والحرّيّة والعدل... ونربّي على المواطنة بالاستعمال اللغويّ العفويّ أي بالممارسات. ولعلّ الطريقة الثانية في التربية أعمق أثرا لذلك يُدعى المربّون إلى الاعتناء بما ينتقون من ألفاظ وبما يقولون في الفصل لأنّ التلاميذ يتعلّمون بالتقليد أكثر ممّا يتعلّمون بالتلقين.
ومن هذا المنطلق فإنّا نقترح أن يُنظر إلى التربية على المواطنة في تدريس المعجم بحسب المحاور الكبرى التالية:
أ. المحتوى: أيّ معجم ندرّس لنربّي على المواطنة والقيم المشتركة؟
ب. المقاربة: بأيّ مفهوم وبأيّة طريقة ندرّس المعجم؟
ت. الممارسة: كيف نربّي على المواطنة بممارستنا المعجميّة؟
في محور المحتوى ينبغي التفكير في رصيد المفردات التي نريد إجراءها في الاستعمال داخل الفصل حتّى يكتسبها التلاميذ وتجري على ألسنتهم وفي تحاريرهم. وأمّا في محور المقاربة فيُعتنى بالخلفيّة النظريّة التي ننظر من خلالها إلى المعجم ذاته. ذلك أنّ ثمّة تصوّرين كبيرين للمعجم: تصوّرا ينزّله منزلة "القائمة" من المفردات التابعة لنظام النحو، وتصوّرا ينزّله منزلة "النظام" الفرعيّ المنتمي إلى نظام اللغة عامّة. وقد كنّا بيّنّا أثر كلّ تصوّر في تدريس المعجم في بحث لنا سابق . ولا شكّ أنّ للمقاربة أثرا مهمّا في الممارسة. ومن أمثلة ذلك أنّ تصوّرنا للمفهمة بصفتها تكوينا للمفاهيم سينعكس في ممارستنا التعليميّة فنراعي الانطلاق من الشيء إلى المفهوم (الخصائص) إلى المفردة أو المصطلح. كما أنّ تصوّرنا للتسمية بصفتها مدخلا من مداخل اكتساب المعجم ثمّ تعلّمه سينعكس في اشتغالنا على تذليل الصعوبات التي قد تعترض التلاميذ في تعلّم المفردات الجديدة. ورغم ما للمقاربة من أهمّيّة فإنّ الممارسة التعليميّة والمواقف البيداغوجيّة التي يتّخذها المدرّس هي التي سيكون لها الأثر الحقيقيّ في التربية على المواطنة وقيم المجتمع من خلال المعجم. وممارسة المدرّس اللغويّة، المعجميّة، في الفصل تعني اختياراته المعجميّة في تدريسه كما تعني اختياراته المعجميّة في خطابه إلى التلاميذ. إنّ المدرّس في هذا السياق معجم ينهل منه التلاميذ ويتعلّمون. ولكنّ المدرّس يربّي التلاميذ على المواطنة في المعجم أيضا من خلال ما يقرّه من استعمالات وما يرفضه. فقد كنّا أشرنا إلى أنّ الإنسان عندما "يختار" من رصيد المفردات المشترك ما يراه مناسبا لتبليغ رسالته إنّما يعبّر عن ركن أساسيّ من أركان المواطنة هو الاستقلاليّة. وعلى هذا كان ضروريّا أن يربّي المدرّس تلاميذه على "حرّيّة" الاختيار والتعبير في نطاق الرقابة الفرديّة والجماعيّة. ومن وجوه الرقابة أن يراقب المتكلّم/ التلميذ نفسه (وغيره) كي لا يرتكب أخطاء فالأخطاء انحراف عن المشترك وتجاوز له. فمن القيم الاجتماعيّة المشتركة التزام نواميس الاستعمال اللغويّ.
ولذا فإنّا نرى أنّ التفكير في التربية على المواطنة من خلال تدريس المعجم ينبغي أن يستهدف ما يلي:
- مساعدة التلميذ على امتلاك معجم المجتمع لتحقيق شرط من شروط الانتماء؛
- مساعدته على تنمية رصيده اللغويّ لتدعيم ممارسته للمواطنة بصفتها تواصلا؛
- مساعدته على بناء "معجمه" المنبثق من معجم مجتمعه وعلى أن يقول عالمه بمفرداته تثبيتا لمعنى الاستقلاليّة والحرّيّة؛
- مساعدته على امتلاك نظام المعجم ليلتزم قواعده في التواصل تحقيقا لشرط الرقابة في مستواها اللغويّ المعجميّ.
4. خلاصة:
إنّ التربية على المواطنة وقيم المجتمع مدخل مهمّ من مداخل تطوير درس اللغة العربيّة. غير أنّ للتربية على المواطنة نفسها مداخل متعدّدة منها تدريس المعجم بصفته رصيدا لغويّا به يتواصل الفرد في المجتمع ويعبّر عن أفكاره وأحلامه ومشاعره... ولكن أيضا بصفته ثقافة قائمة على القيم المشتركة. فالمعجم،إذن، ولتلك الخصائص التي أشرنا إليها باختصار، مدخل مهمّ للتربية على المواطنة وقيم المجتمع. ولكنّ تدريس المعجم ذاته يحتاج تطويرا ينهض على مقاربة علميّة لسانيّة واضحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* يُنظر في ذلك: إبراهيم بن مراد: في المفهمة في المعجم، ضمن كتاب "من المعجم إلى القاموس"، دار الغرب الإسلاميّ، تونس، 2010، ص ص 11- 35.
* مفهوم الحقّ اللغويّ (droit linguistique) ظهر رسميّا في الإعلان العالميّ للحقوق اللغويّة الصادر عن اليونسكو عقب مؤتمر الحقوق اللغويّة ببرشلونة سنة 1996.
* عنوان البحث هو "بأيّ مفهوم ندرّس المعجم؟" يصدر قريبا ضمن أعمال اليومين الدراسيّين اللذين نظّمهما متفقّدو اللغة العربيّة للمدارس الإعداديّة والمعاهد يومي 6 و7 مارس 2013 بسوسة تحت عنوان "تدريس المعجم: الواقع والآفاق".
* قُدّم هذا العمل في الندوة الوطنيّة التكوينيّة الثانية للغة العربيّة "من قضايا تدريس العربيّة: دور اللغة الأمّ في التربية على المواطنة وقيم المجتمع"، القيروان، 25 و26 ماي 2013.
|
|
|
|
|