|
|
الموت والحياة في أسواق الذهب - 3
د. محمد سعيد حسب النبي
الموت:
راكبَ الأعوادِ إلى أين؟ يا بُعدَ غاية البَين، ويا قُرب الميلادِ من الحَين، ويحَ قومِك، هل انتبهوا من نومِك، ولمسوا عِبرَةَ الدهرِ بيومِك، حَمَلوك على حَدْباء، يقعدُ الأبناءُ منها مَقْعَدَ الآباء، هي أعدلُ –إذ تضعُ- من حَوَّاء، تُلْقِي حَمْلها فإذا المَلِكُ والسُّوقةُ سواء، حقيبةُ المنيّة كلَّ يومٍ في ركاب، من مناكبَ ورقاب، تحملُ الشيبَ والشباب، إلى رَحَى البِلى في اليباب، فيدورُ عليهم الدُّولاب، فإذا هم حصى وتُراب، ومن عجبٍ يعدلونَها بك إلى السَّبيل، وما هي لعَمرُ أبيك إلا الدَّليل، في موكبٍ غير ذي صوت، أضفى عليه جلالَهُ الموت، أنت فيه جِدٌ في لعب، وصدقٌ في كذب، لك فيه عُلُوُّ المتبوع في التَّبَع، واللواءِ في الخميس، والخطيب في الجُمع، بَيدَ أن ذلك لا يمنَعُك من الأرض، ولا يَنفَعُك يوم العَرض، لستَ والله صاحبَ الآخرة، وإن كنت صاحبَ الجِنازة الفاخرة، حتى تُشَيَّيعَ بيتيمٍ بعدك مضَيَّع، أو بائسٍ من ورائك يائس، أو وطن يبكيك عقلاؤه، ويضجُّ عليك فضلاؤه، ويمشي بنورك أبناؤه، ويضيءُ حفرتك ثناؤه.
انظر –رحمك الله- هل ترى غيرَ باكٍ كضاحك المزن، ليس وراء دمعه حزن، أو وارثٍ مشغولٍ بما ملك، أو فضوليٍ يسألُ كم ترك، زخرفُ جنازة، ووينفضُّ دونَ المفازة، وضجُّةُ الخروج من الدُّنيا وزورها، وآخر عهدكَ بباطلِ الحياة وغرورها. ولو أطْلَلتَ على فانٍ طالما حَمَلك، وباطلٍ بالأمس شَغَلكَ، وقليلِ متاعٍ قتَلكَ، ثم لمْ يبق لك؛ لم تر غير حلمٍ بُتر، ومَلعَب سُتِر، وماءٍ عُبِر، وظلٍ هُجِر، ومالٍ خُسِر، ووراثٍ مُنشَمِر، يسيرون بك إلى المُنفَرَق، وسواء الطُّرُق، ويأخذون بك ناحية الحق، وسبيلَ الخلقِ، وقصبةَ السَّبق.
هُوَّة البلى، وغَمْرَةُ الفَلا، والميعاد، ومدينةُ عاد، وعَرَصَاتُ المعَاد، والبلدُ الذي ابيضت فيه الأكباد، وخُلِّفت بظاهِره الأحقاد، وصحَا الفؤاد، عن الأموال والأولاد، كلُّ مكانٍ فيه مَضجَع، وكل زمان فيه رُقاد، ثم إذا أنت ببيتٍ، لا ينزله إلا مَيْت، اختطَّهُ الباطلُ وبناه، لنزول الحقّ وسُكناه، كل حجر فيه من جدار، مشاعُ بين الدار والدار، حتى إذا أطرق الجمع، وأُطلق الدمع، وفَرِق البصرُ والسَّمع، قُذف ما في السرير، فتلقَّفَهُ الحَفير، و وُكِلْتَ لمنكرٍ ونكير، لا بل لرحمة الملك القدير.
فيا عَبدَ المال، أضَرَّكَ أنك عُتقْتَ، ويا أسيرَ الآمال، أما سَرَّك أنك أُطلقت، ويا كثير التحوُّل والتقلُّب، قَلِّبْ إن استطعتَ جنبيك، ويا مُديمَ التَّطلُّع والتَّطلُّب، اطلب من البِلى نور عينيك، ويا مُزَحزح الصمِّ الصِلاب، زحزح عن رأسك هذه الظُّلمة، ويا فاتح المغالق الصِّعاب، افتح لك اليوم ثُلمة، كأني والله بالدهر وقد خلا، وبالمحزون وقد سلا، وكأني بك وقد فَزَعَ منك الثرى، وقامت عنك الرَّحى. فإذا أنت عظامٌ، كما اخْتُرِطَ العُنقُود، ثم إذا أنت رَغامٌ، جَفَّ الماء وذهب العود.
الحياة:
القَبَس، والنَّفَس، والرُّوحُ القُدُس. ظاهِرُها هذه الجيفة، وباطِنها النفسُ الشريفة. تَبِعَةُ الذَّنبِ القديم، وأثرَ آدمَ على الأديم. فيا طريدَ القَدَر، ونَفِيَّ الحُظُر، وأبا البَشَر، ما أطوَل ذَماءَك، وأدوَمَ ماءَك، وما أكثرَ بناتِكَ وأبناءَك، وأقلَّ اهتمامَك بهم واعتناءك، وُلدتَ للموت، وأوجدْت للفوت. تَقَسَّمَ القَبَسُ نُفوساً بلا عَدَد، وتفرَّق في شتَّى الوَلَد. فليت شِعري كيف استقلّها صَلصَالُك، وكيف قوِيَت عليهما أوْصالك؟ آمَنَّا بأنك الجَدّ، فهل لهذا التدفقِ حدّ، أم ما لأمر الله مَرَدّ؟
الحياة كعهدِكَ بها مَعْصيَة، عن الحظيرة مُقصيَة. وخلوَة حلوة، عواقبها نَغَص، ومَشارِبُها غُصَص. أفْعَى خدَّاعة، ولذَّة لَذَّاعة. شَوك بغَّضَ الوَرد، وقذىً نغَّصَ الوِرد. أمورٌ شتى الأعنَّة، وحوادثُ وُقعٌ وأجنَّة. فقل لمن أطال التفكير، وبالغ في النَّكير، وكدَّ بَالَه، ومدَّ بِلْبَالَه، واحترقَ الذُّبالة:
خلِّ اهتمامَك ناحية وخُذِ الحياةَ كما هيه!
أحقٌ أنها هيَ الدَّمُ حتى يَجمُد؟ وأنها هي الحرارة حتى تبرد؟ وأنها هي الحَرَكةُ حتى يَقطعَها السُّكون، وأنها هي الجاران حتى تفرِّقَ بينهما المَنون؟
الحق أن افتئاتَ الفلسفة، على ضنائن الله سَفَه. وأن عِلَم الحياةِ عند الذي يَهَبُها ويَسترِدُّها، والذي يقصِرُها ويمدُّها، والذي يخلِقُها ويَستجدُّها، والذي كلُّ حيّ سواه يموت، وكلُّ شيءٍ ما خلاه يفوت.
ماذا أقولُ في ابنة الموتِ وأُمِّه، وعِلَّةِ حُكمِه، ونَبعةِ سَهْمهِ، ومَنْقَعَةِ سُمِّه؟ وكيفَ القَولُ في صاحبِة، لم تُمَلَّك عن خِطْبَة، ولم يُبْنَ بها عن رغبة، ولم تَبِن لملال صُحْبة، أو بِغضَةٍ بعد محبَّة، تُسيءُ ولا تُفْرَك، ولولا الموتَ لم تُترَك.
|
|
|
|
|