للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

المَلَكَة اللّسانيّة عند ابن خلدون وصناعة العربيّة

د. نوال بنت سيف البلوشية

تعدّ معرفة العربيّة كلغة بين اللّغات، من العلوم الرّاقية الّتي لها أثر في تشكيل وتكوين سلوكات الفرد الظّاهرة منها والباطنة؛ لارتباط تعلّمها بالمعجزة الخالدة من جهة، ولارتباطها بمختلف العلوم من جهة أخرى ؛ كالعروة الوثقي في تحقيق فهمها وبيانها سواءٌ أكانت تلك العلوم من الفلسفة أو المنطق. لذا قالَ ابن الشّبرمةِ في فضل تعلّم العربيّة: إذا سرّكَ أنْ تَكبّرَ في عينِ من كنتَ صغيرًا في عينهِ، ويصغرُ من كانَ في عينكَ كبيرًا، فتعلمَ العربيّةُ فإنّها تُجريك على النّطقِ وتُدنيك من السّلطانِ.
لذا كان اهتمام العلماء الأوائل في تعلّم العربيّة من أولى انطلاقاتهم في تحقيق سنن العلوم الأخرى، من بيّنهم العلّامة عبد الرّحمن أبو زيد وليّ الدّين المعروف بابن خلدون.  وصناعة العربيّة من المنظور الخلدونيّ تمثل في معرفة  قوانينها، وقدّ أكد ابن خلدون على نظريته هذه في مقدّمته بقوله: " فهو علمٌ بكيفيَّةِ، لا نفس كيفيتّه"؛ أيّ هي بمثابة من يعرف صناعة من الصّنائع علمًا ولا يحكُمها عملاً، وقدّ عرّف الصّناعة في مقدّمته بأنّها: مَلَكَة في أمرٍ علميّ فكريّ بقوله: " اعلم  أنّ الصّناعة هي مَلَكَةٌ..."، وعرّف المَلَكَة في قوله:" والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأنّ الفعل يقع أولاً وتعود منه للّذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالاً، ومعنى الحال أنّها صفة غير راسخة، ثم يزيد التّكرار فتكون مَلَكَة أيّ صفةٌ راسخةٌ" (ابن خلدون،2004، ص574).
إذ تأملنا في تعريف ابن خلدون للمَلَكَة اللّسانيّة؛ لوجدنا أنّه ركّز على عمليّة التّكرار في تحقيقها؛ لذا عرّفها بأنّها صفة راسخة يكتسبها الإنسان عن طريق التّعلّم  أيّ لا يمكن أنْ تتحقق المَلَكَة لدى الفرد إلا عن طريق التّعلّم والتّكرار، لذا يرى ابن خلدون اللّغات جميعها ملكات شبيهة بالصّناعة، أي أنّ اللغة تُكتسب بالتّعلّم، والمَلَكَة عنده مهارة ثابتة تُكتسب عن طريق التّعلّم، كصناعة الخِياطة، والنّجارة، والحِدادة.

جعل ابن خلدون حداً فاصلاً بين المصطلحين، - صناعة اللّغة العربيّة ومَلَكَة اللّغة العربيّة-، فمعنى صناعة العربيّة أنْ يمتلك المتعلم قوانين اللّغة من إعرابٍ ونحوهِ، وأنْ يحفظ كلام العرب، لكن دون تطبيق ذلك في كلامه هو، فهذه لا تسمى عنده مَلَكَة بلّ صِناعة، وحين يستخدم المتعلم المحفوظ والمفهوم، فهو عندئذ يملك المَلَكَة اللّغويّة،  وضّح ابن خلدون شرح الفرق بين الصّناعة والمَلَكَة بالتّمثيل بمثال حسيّ، إذ اعتبر من لا يستخدم اللّغة وهو يعرف قوانينها كمن يعرف قوانين الخياطة والنّجارة معرفة نظريّة فيصف ما ينبغي القيام به في الصّناعتيّن، لكن إذا طُلب منه أن يُطبق معرفته النّظريّة يعجز في تطبيقها .
من المنطلق السّابق قدّم لنا ابن خلدون في مقدّمته القاعدة الأساسيّة في تحقيق المَلَكَة اللّسانيّة، وتعلّم اللّسان العربيّ، وهو الاستماع بقوله: " فالمتكلم من العرب حين كانت مَلَكَته اللّغة العربيّة موجودة فيهم، يسمع كلام أهل جيله، وأساليبهم في مخاطبتهم وكيفيّة تعبيرهم عن مقاصدهم؛ كما يسمعُ الصّبيُّ استعمال المفردات في معانيها... ثمّ لا يزالُ سماعهم يتجدد قي كلّ لحظةٍ..." (ابن خلدون،2004، ص574). بعدها دعمّ القاعدة الأساسيّة بأساسٍ أخر وهو الحفظ كطريقة لاكتساب اللّسان العربيّ بقوله: " ووجه التّعليم لمن يبتغي هذه المَلَكَة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم... حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم... منزلة من نشأ بينهم"  (ابن خلدون،2004، ص579).





 نلاحظ أنّ طريقة تعلّم العربيّة واكتسابها عند ابن خلدون تتحقق بحفظ كلام العرب القديم، وجَعَلَ القرآن الكريم والحديث الشّريف من أوّل ما ينبغي أن يحفظ ابتغاء هذه المَلَكَة، ثم يأتي بعد ذلك كلام السّلف عامّة، ثم كلام فحول العرب، كما يرى ابن خلدون أنّ حفظ كلام العرب الفصيح طريقة فعّالة في اكتساب مَلَكَة اللّغة العربيّة، ذلك أنّ مَنْ حفظ كلام العرب الفصيح كَمَنْ عاش بينهم، فسمع منهم، و المَلَكَة الّتي تنشأ عن حفظ الكلام الفصيح هي نفسها الّتي تنشأ عن سماع الكلام الفصيح، نتيجة لذا أورد العوني (2013) في مقاله الّذي ناقش فيه منظـــور ابن خلدون في اكتساب اللّغة العربيّة قضية خلق بيئة من السّماع الاصطناعيّ حيث قال فيها: فإذا كانت وسيلة السّماع الطّبيعية غير متاحة في الوسط اللّغوي بعد فساد اللّسان العربيّ بالعُجْمَة، فإنّ ابن خلدون يحثّ على خلق بيئة من السّماع الاصطناعيّ.
لم يكتفِ ابن خلدون بسن قاعدتهُ في تعليم اللّغة العربيّة وتحقيق المَلَكَة اللّسانيّة فيها فقط، وإنّما وضع لها علامة ومحك في تحقيقها، على أثره تتحقق جودة المَلَكَة اللّسانيّة بقوله: " وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظماً ونثراً ... فبارتقاء المحفوظِ في طبقة من الكلام، ترتقي المَلَكَة الحاصلة " (ابن خلدون،2004،  ص 597-596).
أي جعل ابن خلدون للمحفوظ مستويات تتحقق وتتكون على أثرها جودة المَلَكَة اللّسانيّة لدى الحافظ تتمثل هذه المستويات في جودة المحفوظ وطبقته في جنسهِ وكثرته من قلّتهِ. بقوله: " وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته من جنسه وكثرته من قلّته، تكون جودة المَلَكَة الحاصلة عنه للحافظ..." (ابن خلدون، 2004،  ص596).

وتمثّلت القاعدة الثّالثة في المنظور الخلدونيّ بعد الاستماع والحفظ؛ فهم المسموع والمحفوظ سواءٌ أكان ذلك المسموع أو المحفوظ من القرآن الكريم، أو الأحاديث النّبويّة، أو كان من المنثور من كلام العرب؛ لتحقيق المَلَكَة اللّسانيّة، وتعلّم اللّسان العربيّ؛ لما لها من ضرورة عالية في تثبيت المحفوظ واستثماره في تحقيق جودة المَلَكَة اللّسانيّة لدى الفرد، وقد أكّد على ذلك بقوله: " ... ثم يتصرّف بعد ذلك في التّعبير عمّا في ضميره على حسب عباراتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم؛ فتحصل له هذه الملكة بالحفظ والاستعمال.." (ابن خلدون،2004،  ص596).
لم يكتفِ ابن خلدون بالقواعد الثّالثة في تحقيق المَلَكَة اللّسانيّة لدى الفرد- الاستماع/ الحفظ/ الفهم-، وإنما دعّمها بأساسٍ رصين، وقاعدة مسلحة بالمعرفة العميقة بعد فهم الكلام من المحفوظ والمسموع تمثل في استخدام ذلك المسموع والمحفوظ في الكلام. إذ عبر ابن خلدون عن هذا المعنى باستعمال فعل «تصرّف»، حيث قال: "... ثم يتصرّف بعد ذلك في التّعبير عمّا في ضميره على حسب عباراتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم، فتحصل له هذه المَلَكَة بهذا الحفظ والاستعمال" (ابن خلدون، 2004،  ص574).
خاتمة
نستنتج مما سبق رفض ابن خلدون لطريقة التّلقين والحفظ المجرّدة من الفهم والاستخدام في تحقيق المَلَكَة اللّسانيّة، وتعلّم اللّسان العربيّ على وجه الخصوص، وتؤكد لنا نظرية ابن خلدون أنّ حقيقة العلاقة بيّن التّراث ووعينا المعاصر كعلّاقة السّبب بالنّتيجة؛ إذ ليس للتّراث وجود مستقل خارج وعينا به، وفهمنا إيّاه.  وأنّ الأخذ بقاعدة ابن خلدون في تحقيق المَلَكَة اللّسانيّة لدى الفرد؛ وتعلّم العربيّة سيكون لها شأن في تحقيق الرّقي بمنظومة العمليّة التّعليميّة التّعلّميّة، والمساهمة الفعّالة في تعليم اللّغة العربيّة سواءٌ أكان ذلك التّعليم للنّاطقين بها أو للنّاطقين بغيرها.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
1.    ابن خلدون، عبد الرحمن  أبو زيد ولي الدّين (2004). مقدمة العلاّمة ابن خلدون المسمى ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر. بيروت: دار الفكر.
2.    العوني،  احميده  (2013) . منظـــور ابن خلدون في اكتساب اللغة العربية. مجلة البيان، العدد. 310 تاريخ الاسترجاع الثلاثاء 12 شعبان 1435 هـ الموافق2014/06/10


التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية