|
|
|
|
جامعة محمد الفاتح.. أول جامعة تركية يتم التدريس فيها باللغة العربية في العصر الحديث
شعبان عبدالرحمن
في القسطنطينية القديمة، وفي الحي التاريخي، وعلى مقربة من مسجد «محمد الفاتح»؛ حيث يُدفن فاتح القسطنطينية السلطان محمد الفاتح، والذي تحيط به مبرات ومؤسسات خيرية، ومدارس للعلوم الشرعية والعصرية والفنون المختلفة، وهي من أرقى المدارس التي أنشئت في عهد الدولة العثمانية، وعلى مقربة من مكتبة «الفاتح» ذات المخطوطات الثمينة؛ أقيمت جامعة «محمد الفاتح»، وهي أول جامعة تركية في العصر الحديث يتم التدريس فيها باللغة العربية. عند دخول مقر الجامعة تشم للوهلة الأولى عبق التاريخ الإسلامي الزاهر من ثنايا حوائط وجدران المبنى الذي ينطق بالعمارة الإسلامية المبدعة.. هناك اصطحبني «د. حمدي أرسلان»، أحد مؤسسي الجامعة، وأحد أساتذة كلية اللغة العربية فيها. يقع مبنى الجامعة ضمن مجموعة من أوقاف السيدة «نور بانو سلطان»، أم السلطان محمد الفاتح، التي من أشهرها «الجامع العتيق»، ويتم تمويل الجامعة من تلك الأوقاف. وقد جاءت فكرة إقامة تلك الجامعة من «رجب طيب أردوغان»، رئيس الوزراء التركي، وهو المشرف العام على جهود إنشائها وتطويرها، وفضَّل أن يكون مقرُّها الرئيس في منطقة الفاتح بوسط مدينة إسطنبول القديمة (القسطنطينية)، بجوها التاريخي العظيم، كما حرص على أن تكون فروعها في هذه المنطقة. يقع مقر الجامعة الرئيس في أحد المباني التاريخية الذي صممه المعمار التركي الشهير «سينان الكبير»، كبير المهندسين، الذي أشرف على بناء السليمانية، وعلى بناء عدة مساجد وجوامع في مصر ودمشق وكذلك في بلاد البلقان.. وتضم الجامعة كليات: الآداب، الفنون الجميلة، الحقوق، العلوم الإسلامية، الهندسة والمعمار، التربية. ولأول مرة في تاريخ تركيا الحديث يتم التدريس بكلية العلوم الإسلامية باللغة العربية طوال سنوات الدراسة الخمس. وغني عن البيان، فإن في تركيا أكثر من أربعين كلية لدراسة العلوم الإسلامية منتشرة في مختلف الجامعات، وتسمى «كليات الإلهيات»، وكانت الدراسة فيها باللغة التركية حتى بعد مجيء حكومة حزب «العدالة والتنمية»، حيث تم السماح منذ عامين فقط بتعلم اللغة العربية. وبالعودة إلى كلية العلوم الإسلامية بجامعة «محمد الفاتح» الجديدة، فقد تم قبول ستين طالباً وطالبة في الدفعة الأولى بالكلية (عام 2010م)، من الحاصلين على ثانوية الأئمة والخطباء، ويتم القبول حسب درجات الطالب. ووفقاً للقوانين التركية، لا يتم قبول أي طالب في أي جامعة أو كلية إلا بعد موافقة المجلس الأعلى للجامعات التركية، وهو الجهة الرسمية المسؤولة أمام رئيس الوزراء، والمخولة بتحديد عدد الطلاب في أي جامعة أو كلية، ويقوم المجلس الأعلى للجامعات بالتفتيش الدوري على الجامعات والكليات للتأكد من إمكاناتها، وعلى إثر ذلك يتم تحديد عدد الطلبة المقبولين فيها. وبعد جولة سريعة في أرجاء الجامعة بصحبة «د. حمدي أرسلان»، التقيت برئيس الجامعة البروفيسور «موسى دومان»؛ حيث بادرته بالسؤال: < كيف قابل الرأي العام في تركيا افتتاح جامعة باسم «محمد الفاتح»؟ - تم استقباله باحتفاء منقطع النظير من قطاع عريض من الشعب، وكذلك من جانب الطلبة الأتراك، مثل الاحتفاء الذي تم عند افتتاح «مسجد السلطان محمد الفاتح» العام قبل الماضي، وذلك راجع إلى أن الأوقاف الإسلامية ومنها أوقاف السلطان محمد الفاتح هي التي قامت بتأسيس هذه الجامعة، وفي سند هذه الأوقاف التاريخية توجد بنود تنص على رعاية التعليم، والأوقاف تمتلك إمكانات عالية جداً، وكان من المطلوب استثمارها في مشاريع تعليمية، وقد حقق افتتاح هذه الجامعة في مايو عام 2010م هذا الهدف، فهي جامعة وقفية خاصة، وإن كان رئيس الوزراء «رجب طيب أردوغان» قد تولى رعاية إنشائها. < كم عدد الطلبة فيها؟ - في مرحلة الليسانس 600 طالب وطالبة، وفي مرحلة الماجستير أكثر من 50 طالباً وطالبة. < هل من الممكن القول: إن من أهداف هذه الجامعة إعادة إحياء الحضارة الإسلامية؟ - نعم.. هذا جزء من الأهداف؛ فنحن نعمل على إحياء تلك الحضارة، ثم تحليلها تحليلاً صحيحاً، ثم فهمها فهماً صحيحاً، ومن خلال هذا التراث العظيم نهدف إلى تنشئة أجيال جديدة في الهندسة المعمارية، بحيث تكون جذورها عميقة، وفي الوقت نفسه تواكب العصر الحديث. نحن نطمح إلى تقاسم هذا التراث العظيم أولاً مع من يعيش من إخواننا في البلاد الإسلامية، ثم مع العالم أجمع، وطلاب الجامعة يدرسون العلوم المتعلقة بالحضارة العثمانية الإسلامية، إلى جانب دراسة ما يجري في البلاد الغربية، وغيرها من البلاد الإسلامية الأخرى؛ ولذلك فقد فتحنا المجال بعد الحصول على الليسانس للحصول على الماجستير والدكتوراه، من خلال «معهد تحالف الحضارات»، وهو تابع لجامعة «الفاتح». < هل لجامعتكم تعاون مع جامعات أخرى في العالم الإسلامي؟ - نعم.. هناك تعاون وتنسيق بين جامعتنا والجامعات خارج الحدود التركية؛ سواء في أوروبا أو آسيا الوسطى أو في البلاد العربية. ولدينا اتجاه للتعاون مع البلاد التي كانت يوماً تحت مظلة الدولة العثمانية، أو منضوية تحت لواء الخلافة الإسلامية العثمانية، مثل مصر والجزيرة العربية وبلاد البلقان وبقية البلدان الأخرى. < هل تخططون لتعاون في المستقبل بين جامعتكم وبعض الجامعات الإسلامية العريقة مثل جامعة الأزهر في مصر؟ - من أهدافنا التنسيق والتعاون ليس مع جامعة الأزهر فقط، ولكن مع كل الجامعات الإسلامية المنتشرة حول العالم، بعد أن تكتمل لدينا جميع الأقسام والفروع إن شاء الله. < وهل تتعاون الجامعة مع جهات أكاديمية أخرى في تركيا في مجال إحياء الحضارة التركية؟ - لا.. ولكن يتم تدريس التاريخ الإسلامي والعلوم الإسلامية، والعلاقات الدولية، في أقسام موجودة في سائر الجامعات التركية. < هل تسمح جامعتكم بالتحاق المحجبات، أم أن المجلس الأعلى للجامعات مازال يحظر ذلك؟ - ليس لدينا أي تحفظ على الحجاب. < نحن في العالم العربي نهتم كثيراً بقضية الحجاب في تركيا.. هل مازال حظره سارياً في الجامعات، والدواوين العامة؟ - لقد عشنا في الماضي مع هذه المشكلة فترة عصيبة، وقد آلمتنا كثيراً، ولكننا منذ ثمانية أعوام تقريباً أصبحنا نشعر بالراحة، وذلك راجع إلى مواقف رؤساء الجامعات وعمداء الكليات الجدد. < هل مشكلة حجاب الطالبات كانت محصورة في الحرس العلماني القديم؟ - هناك بعض القرارات الخاطئة تلاقت مع ميول بعض الإداريين للضغط على المحجبات، ولكن بعد إزاحة هؤلاء المتعصبين، انتهت المشكلة. < هل تدخل الفتاة التركية بالحجاب في كل جامعات تركيا، أم في جامعات معينة؟ - هناك ارتياح عام بسبب التسامح من قبل أصحاب القرار السياسي والإداريين، كما تجري محاولات لتغيير الدستور التركي بما يسمح بالحجاب، وفي حالة إتمام ذلك سيكون هناك ارتياح كامل. < هل هناك قانون رسمي صريح يمنع الحجاب في الوقت الحالي؟ - لا يوجد في القانون ما يمنع الحجاب صراحة، ولكن المنع راجع لتأويل بعض الإداريين المتعصبين المحاربين للإسلام والحجاب، والذين كانوا يتحكمون في صنع القرار، وهذا الأمر ينطبق على الدواوين الوظيفية وفي الجامعات. لكن في الوقت الحالي - كما قلت - لا توجد مشكلة فيما يخص الحجاب سواء في المدارس أو الجامعات، أما الدواوين الحكومية، فتختلف من جهة إلى أخرى حسب رئيسها. < نعلم أن الوقف في تركيا يمثل تجربة رائدة في تنمية المجتمع.. كيف؟ هل توضح لنا؟ - علاقتنا بمؤسسة الوقف علاقة قديمة، وكانت البداية من مكة المكرمة، حيث الوقف التركي الذي تبلورت فكرته من سيدنا رسول الله [، وتطورت فكرة الوقف في المجتمع التركي تطوراً كبيراً. وهناك أنواع كثيرة للأوقاف، بدءاً من تأمين البذور للطيور، وتنظيف الشوارع والأزقة، ودور الأيتام، حيث تم إنشاء أوقاف خاصة بتلك الجوانب. وفي جميع المجالات تقريباً تجد وقفاً خاصاً، بل إن أي شيء يخطر في بالكم تجدون في المجتمع العثماني والتركي وقفاً خاصاً به.. والهدف من إنشاء هذه الأوقاف هو في الأساس خدمة لعباد الله ولمخلوقات الله، بلا مقابل، وإنما ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى. إن هذه الأوقاف تم وقفها للإنسان ولسائر المخلوقات في العالم؛ لذلك فإن المجتمع التركي لديه تجارب كثيرة ومتنوعة، وفي التاريخ الحديث تنوعت هذه التجربة أكثر، وهو أمر متوازٍ مع الأفكار المتجددة في المجتمع التركي. لكني أشير في هذا الصدد إلى أن هناك أفكاراً طارئة وخارج المنظور الإسلامي. < مثل؟ - لا نريد أن ندخل في نقاش مع آخرين يقيمون أوقافاً ظاهرها من أجل التعليم، ولكنهم يهدفون إلى مصالح شخصية ومآرب سياسية أو العمل لصالح جهات ومنظمات خارجية. < بصفتك خريج معاهد الأئمة والخطباء.. تابعنا قبل مجيء حكومة «العدالة والتنمية» أزمة تقليص عدد هذه المعاهد ووضع الكثير من المعوقات أمام رسالتها، وكان الهدف - كما كان واضحاً - هو القضاء على تلك المدارس.. الآن ما موقف تلك المعاهد؟ - هذه المعاهد كانت أنشئت من أجل إعداد الأئمة والخطباء في المساجد، وعملت لفترة زمنية لتحقيق هذا الغرض ثم تحولت إلى ثانوية عامة مع دراسة بعض المواد الدينية، حتى يتمكن خريجوها من العمل في جميع المجالات، وبالفعل تخرجت من تلك المعاهد أجيال يعملون في جميع المجالات، من حقوق وسياسة وتجارة وغيرها، مع العلم أن رئيس الوزراء «رجب طيب أردوغان» هو من خريجي تلك المدارس. وقد حاول أعداء الإسلام منع تطور هذه المدارس، ونجحوا في ذلك، ولكن لم يستطيعوا القضاء عليها تماماً، حيث بدأت تلك المدارس في التطور مرة أخرى، هذه المدارس كانت الأمل الوحيد لمستقبل تركيا في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. < كيف؟ - خريجو تلك المدارس أكثر اهتماماً بالمسلمين وبالقضايا الإسلامية، وأكثر اهتماماً بالعالم الإسلامي، ولذلك فبعد أحداث 28 فبراير عام 1997م، تاريخ إقالة حكومة البروفيسور «نجم الدين أربكان» - يرحمه الله - تحت تهديد الجيش عمل التيار العلماني على تقليص هذه المدارس، وصنع أجواء قهرية وشروطاً جبرية أمام إنشائها وسير العملية التعليمية فيها؛ فاتجه مؤيدو تلك المدارس نحو إنشاء معاهد خاصة، قامت بما كانت تقوم به معاهد الأئمة والخطباء، ونجحت في ملء الفراغ الذي تركته.. ونستطيع القول اليوم: إن المسيرة مستمرة، والنهر يتدفق.
المجتمع
|
|
|
|
|
|