|
|
اللغة الشاعرة - 3
د. محمد سعيد حسب النبي
الإعراب
يقول العقاد: من الأسئلة الشائعة بين مؤرخي الفنون واللغات سؤال عن الشعر والنثر، أيهما أسبق إلى الظهور، وأيهما أقدم في تاريخ الأدب؟
والذين يسألون هذا السؤال لا يجهلون أن الكلام المنثور سابق للكلام المنظوم، فلا محل للخلاف إذا كان مداره على ترتيب ظهور النطق بالكلام للتفاهم بين الناس في شؤونهم المشتركة، وترتيب ظهور الكلام المنظوم الذي ينفرد بنظمه الشعراء وأصحاب الغناء.
ويضيف العقاد، ولكن السؤال على ذلك الوجه يدور على ترتيب التفاهم بأصوات الإيقاع ودلالة الحركات، ثم التفاهم بالكلمات المتناثرة التي احتوتها لغة الإنسام الأولى.
فعلى هذا الوجه يكون محل الخلاف ظاهراً، لأنه لا خلاف بين القائلين بأن التفاهم بأصوات الإيقاع سابق لتطور اللغة الأولى، وبين القائلين بأن اللغة تطورت إلى غايتها من التمام قبل أن يعتمد الناس على التفاهم بالأصوات الموقعة على حسب العواطف أو على حسب دلالة الحركات والإشارات.
فلا حاجة إلى الكلمات لفهم معنى الصوت الذي ينبعث من بعيد للاستغاثة وإعلان الخطر والفزع، ولا حاجة إلى الكلمات لفهم معاني الأصوات التي يرسلها الصائحون على البعد أوعلى القرب للتهليل والاستبشار وإعلان الفرح والابتهاج.
ولا حاجة إلى الكلمات لفهم معنى الأنين على ملامح المبتئس الكئيب الذي يكاد لا يبين من الضعف والخوف، أو معنى الرجاء والتوسل بما يشبه الآهات وحروف التنبيه والإشارة التي لم تبلغ بعد مبلغ الكلم المفهوم.
فهذه الأصوات التي تدل السامع بإيقاعها ونغمتها هي المقصودة بالشعر البدائي قبل تطور اللغة واستيفاء وسائل التعبيير بالجمل والتراكيب، فإن تلك الأصوات الموقعة حقيقة بأن تسمى شعراً حين نحسب الكلام الناقص المختلط قبل تطور اللغة فناً من فنون القول المنثور.
ويرى أناس من مؤرخي اللغات أن الإعراب في اللغة العربية أثر من آثار استخدام الحركة في التعبير عن المعنى، وأن اللغة العربية تفردت بين لغات العالم بهذه الخاصة الفنية مع شيوع أنواع من الإعراب في بعض اللغات الهندية الجرمانية كاللاتينية، وبعض اللغات السامية كالعبرية والحبشية، وبعض اللغات القديمة المهجورة كاللغة المصرية على عهد الفراعنة.
إلا أن الإعراب (العربي) في مقرر القواعد يعم أقسام الكلام أفعالاً وأسماء وحروفاً حيثما وقعت بمعانيها من الجمل والعبارات، ولا يزيد الإعراب في اللغات الأخرى على إلحاق طائفة من الأسماء والأفعال بعلامات الجمع والإفراد أوعلامات التذكير والتأنيث، وما زاد على ذلك فهو مقصور على مواضع محدودة ولا يصاحب كل كلمة ولا كل عبارة كما يصاحب الكلمات العربية حيثما وقعت من عباراتها المفيدة.
وهذا الإعراب المفصل في هذه اللغة الشاعرة هو آية السليقة الفنية في التراكيب العربية المفيدة، توافرت لها جملاً مفهومة بعد أن توافرت لها حروفاً تجمع مخارج النطق الإنساني على أفصحها وأوفاها، وبعد أن توافرت لها مفردات ترتبط فيها المعاني بضوابط الحركات والأوزان.
فليس أوفق للشعر الموزون من العبارات التي تنتظم فيها حركات الإعراب وتتقابل فيها مقاطع العروض وأبواب الأوزان وعلامات الإعراب، فإن هذه الحركات والعلامات تجري مجرى الأصوات الموسيقية تستقر في مواضعها المقدورة على حسب الحركة والسكون في مقايسس النغم والإيقاع، ولها بعد ذلك مزية تجعلها قابلة للتقديم والتأخير في كل وزن من أوزان البحور لأن علامات الإعراب تدل على معناها كيفما كان موقعها من الجملة المنظومة، فلا يصعب على الشاعر أن يتصرف بها دون أن يتغير معناها إذا كان هذا المعنى موقوفاً على حركتها المستقلة الملازمة لها وليس هو بالموقوف على رص الكلمات كما ترص الجمادات، وإن هذه الموسيقية لتعلم النحاة أحياناً كيف ينبغي أن يفهموا الشعر في هذه اللغة الشاعرة، لأن المزية الشعرية في قواعد إعرابها أسبق من المصطلحات التي يتقيد بها النحاة والصرفيون. وقد ساق العقاد مثالاً على ذلك من شعر النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع
فينسى النحاة أن علامة الرفع في القافية تدل عى الصفة وتعطي الكلمة معناها الذي يلائم الوزن ويلائم الإعراب، وما أخطأ النابغة حين قال "ضئيلة ناقع في أنيابها السم"...ولا هو بمخطئ في تأخير الصفة إلى مكان القافية لأنها – وهي مرفوعة- لا تكون إلى صفة موافقة لموصوفها أينما انتقل بها ترتيب الكلم المنظوم.
ويسوق العقاد مثالاً آخر من شعر أبو سعيد الرستمي في وصف دار ابن عياد:
سامية الأعلام تلحظ دونها سنا النجم في آفاقها متضائلاً
فلا يضير الشاعر أن يضع النحاة (متضائلا) هنا حيث أرادوا من مواضع الإعراب: هي حال وإن أرادها النحاة مفعولاً ثانياً، وهي قافية مطمئنة في موقعها على حسب الوزن وعلى حسب المعنى في كل كلام منظوم أومنثور، ولا يستقيم هذا النسق لشاعر ينظم بغير اللغة العربية، لأن الترتيب الآلي يقيده بموضوع لا يتعداه، حيث يطلقه الإعراب (العربي) المعدود في عرف أعدائه الجهلاء قيداً من القيود.
وتتبع هذه الضآلة إلى موقعها من نظم شاعر معاصر يضعها حيث صح له وضعها بلفظها ووزنها ومعناها، فقال:
قطعوا بأيديهم خيوط سيادة كانت كخيط العنكبوت ضئيلا
إن (ضئيلا) في هذا البيت الذي وصف به (شوقي) سيادة بني عثمان لتحمل للإعراب العربي تلك الطمأنينة التي تستقر بها في موضعها، فلا تضطرها هذه الخيوط إلى الجمع، ولا تضطرها السيادة إلى التأنيث، وليس عليه أن يقول: (كانت ضئيلة) ولا أن يقول (قطعوا خيوطاً ضئالا) ...لأن لسان (الحال) هنا أصدق من لسان المقال.
ولم تكن قواعد الإعراب -كما يقول العقاد- لتسعد الشاعر هذا الإسعاد في تطويع أوزانه لمعانيه لو أنه نظم قصائده بلغة أجنبية، لأنه لا يظفر في تلك اللغة بالكلمات التي تتساوى فيها أوزان الصرف وأوزان الشعر، ولكن اللغة العربية تنفرد بسمة الشاعرية لأنها جمعت على هذا المثال البديع بين أبواب الاشتقاق وأوزان العروض وحركات الإعراب.
|
|
|
|
|