|
|
اللغة العربية بين الأمس واليوم
د. زياد الوهر
أن يكون دارسا مختصا باللغة العربية أو أديبا مرموقا أو حتى شاعرا متميزا ويكتب مقالا عن اللغة العربية فهذا شيء ليس بالأمر الجديد وليس فيه ما يدعو للاستغراب، فأولئك هم أهل الاختصاص وهذه مهنتهم التي أبدعوا فيها وتميزوا، ولكن أن تكون طبيب أسنان ومهنتك تقتضي منك البحث عن المشاكل والمصاعب داخل أفواه الناس وبين أسنانهم وهو اختصاص بعيد كل البعد عن اللغة العربية؛ ثم تكتب عن اللغة العربية والتحديات التي تواجهها أمام هذا الطوفان من المفردات والمصطلحات الأجنبية، عندها يكون ذلك أمر متميز وقد يدعو للدهشة. ولقد أسعفني الحظ أن أكتب هذا المقال مع حلول "اليوم العالمي للّغة العربية" الذي يصادف 18 ديسمبر من كل عام والذي احتُفِل به لأول مرة في العام 2012.
نعم أعترف أني من عشاق اللغة العربية ومن المهتمين بها وبنوع خاص بالأدب العربي والشعر منذ نعومة أظفاري، وقد يكون التحدي الأصعب بالنسبة لي هو عدم توفر الوقت، ذلك أني أبحث دائما عن الأوقات المناسبة من أجل القراءة والاطلاع عما يدور في بطون الكتب وبين السطور وعلى كل عمل إبداعي في اللغة العربية شعرا كان أو نثرا، رواية أو قصة قصيرة، عملا قديما كان أو حديثا عصريا. ولا شك أننا جميعا نلاحظ هذه الأيام وضوح التحديات الجسيمة أمام لغتنا العربية ولكن دون وضوح الرؤيا لدى القائمين على مؤسساتنا الثقافية واللغوية في محاربة هذا المد الهائل من المفردات الأجنبية والتي أزاحت مفرداتنا وكلماتنا وحلت مكانها بشكل يدركه كل فرد من أفراد الوطن العربي الكبير.
كانت ثورة الإنترنت ثورة حضارية وتقنية بكل المقاييس نقلتنا من عالم إلى آخر، فانفتحت فيها الثقافات على بعضها وتعرفت الشعوب على لغات الشعوب الأخرى وحضاراتها وأمسى التواصل مع كافة أقطار العالم سهلا بسيطا لا يتطلب إلا جهاز هاتف ذكي أو حاسب شخصي، وهو بالتأكيد متوفر بين أيدي معظم أبنائنا وبناتنا من الأطفال والشبان وحتى الكبار .
تحولت هذه الوسيلة التقنية الحديثة إلى وبال ونكبة علينا فانشغلنا عن غيرنا من الأحبة والأصدقاء وأصبحنا لا نتورع عن التواصل بهذه التقنيات بالرسائل فقط وبلغة عربية ركيكة جدا ولا تخلو طبعا من بعض الكلمات الأجنبية. والملفت للنظر أنه ومنذ سنوات تزيد عن العشرة برزت نوعية جديدة من الكتابة العربية ولكن بالحروف والأرقام الأجنبية وهذه كانت آخر صرعة استحدثها جيل هذه الفترة وشكلت لي ولغيري الكثير من الصعوبة في قراءتها والتعود عليها. هذه اللغة بدأت الآن بالتّسيُّد وفرض نفسها على معظم وسائل التواصل الاجتماعية وغابت اللغة العربية وحروفها الجميلة عن الساحة، وقد تُمسي قريبا جزءا من التراث والحضارة العربية البائدة. والسؤال المطروح دائما لماذا نلجأ للبدائل ولغتنا لا تشكو من علّة أو نقص وليس فيها ما يعيب وهي رمز هويتنا وعنوان حضارتنا وملامح شخصيتنا العربية الأصيلة. نعم إن اللغة العربية هي الأوفر حظا بين كافة لغات العالم قاطبة فقد حباها الله بنعمة كبيرة؛ وهي القرآن والذي قال فيه جلّت قدرته "إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" هذه العناية الإلهية للقرآن الكريم وحفظه من التلفيق والتزوير ضمنت لنا رصيدا مكينا ووفرة قلّ نظيرها من المفردات والقواعد النحوية التي تُبقي اللغة العربية دائمة الإزدهار يفوح عطرها مدى العقود والقرون لينعم المسلمون أينما كانوا بقراءة القرآن الكريم والتمتع بما جاء فيه من الوحي الإلهي، والعمل على تطبيق ما نزل فيه من أحكام واتباع ما فيه من تشريعات. كان القرآن الكريم ولا زال وسيبقى بمشيئة الله إلى أن تقوم الساعة هو الحصن الحصين لشريعة الله في خلقه وهو الزاد والمعين الذي لا ينضب للّغة العربية. ورغم هذا التأمين الرباني إلا أن البعض لا زال يصر على العمل على هدم أركان اللغة العربية من جذورها؛ أكان ذلك بقصد أوغير قصد، مما أنتج لغة عربية مسخ ليس فيها قاعدة نحوية واحدة صحيحة، حتى أنك تلاحظ وبعين الأسف والحسرة كيف يكتب الكثيرون اللغة بشكل خاطئ، فما عاد معظمهم يعرف الفرق بين التاء المربوطة والتاء المفتوحة وطبعا ناهيك عن الأخطاء الكارثية في الهمزة وقواعدها. نشأ جيل هذه الأيام على احتقار اللغة العربية والمتحدثين بها، وحتى في المدارس ترى من الطلبة نفورا واضحا منها ولا يدرسونها إلا للحصول على الدرجات العالية من أجل اتمام دراستهم الجامعية. قد يكون للمجتمع دور سلبي واضح في ذلك من خلال تقدير كل من يتحدث الأجنبية بطلاقة ويتجاهل لغته الأم وكأنه مؤشر على الرقي والتحضر، وقد ساهم التلفزيون بشكل واضح في شيوع اللهجات على حساب اللغة العربية الفصحى من خلال معظم البرامج الحوارية وغيرها باستثناء نشرات الأخبار وبعض البرامج الثقافية. ولا شك أن المؤسسات التربوية بما فيها المدرس والذي يقع على عاتقه مسئولية تعليم الأجيال قواعد اللغة وأهميتها في حياتهم اليومية تعاني من بعض الأمراض المزمنة، فالمدرس نفسه قد يكون تعلّم اللغة العربية بنفس الطريقة التلقينية الجوفاء؛ إلا القليل منهم، مما خلق لنا مُدرّسا غير قادر على العطاء لطلبته وما يتبع ذلك بالطبع من تلاميذ قد اكتسبوا هذه الصفة منه. برزت أيضا تحديات كثيرة معاصرة للّغة العربية المعاصرة وهي قدرة لغتنا على مجاراة المصطلحات والمفردات التقنية والعلمية الحديثة في كافة مناحي الحياة (الطبية والهندسية والحواسب الآلية ووسائل الاتصال الحديثة) هذه التحديات التي فرضت نفسها على الساحة العربية فرضا وأصبح لا مفر لنا وللمختصين من إيجاد المفردات التي تلائم هذه الثورات اللغوية في العالم كله. نعم هنالك من المؤسسات والمراكز اللغوية والبحثية العربية من يَصِلون الليل بالنهار من أجل تطوير اللغة العربية واستحداث بعض الكلمات فيها من أجل مواكبة هذه المتغيرات إلا أن تاثيرها لا زال محدودا، وبالتأكيد أن الخير باقٍ في أمة العرب والإسلام كما قال سيد الخلق "الخير في وفي أمتي إلى يوم الدين" وهذا مما دفع بعض الخيّرين من ولاة أمورنا والقائمين على أمور اللغة بالدفع من أجل تحسين وسائل التدريس وتطويرها بما يلائم القرن الواحد والعشرين، ولنا في العديد من المؤسسات والمواقع التخصصية على الإنترنت بعض العزاء والسلوى حتى ينهض العرب من غفوتهم وينهضوا بلغتهم بدل أن تكون في ذيل اللغات العالمية جامدة بلا حيوية، وألّا يقتصر استعمالها فقط على النشرات الإخبارية والصحف اليومية.
|
|
|
|
|