|
|
أحمد محمد صالح - الأستاذ الشاعر
أ.د. محمد عبد الله سليمان
الأستاذ الشاعر لقب أطلقه عليه معاصروه من الشعراء والأدباء والمعجبين بشعره. اشتغل في حقل التعليم وتدرج في العمل الإداري حتي تقلد ناظر مدرسة الخرطوم الأميرية ، ثم منصب نائب مدير وزارة المعارف ، وعمل مدرسا بكلية غردون التذكارية ، التي تخرج فيها عام 1914 ، كما فرض عليه الوضع السياسي آنذاك أن يخوض غمار العمل السياسي حيث كان يسيطر على البلاد الاستعمار الإنجليزي فكان من المناهضين له ، وكان شاعرا مفلقا ،وخطيبا مفوها ، بارعا في اللغتين العربية والإنجليزية ، وقد اختير عضوا بمجلس السيادة 1956وهو المجلس الرئاسي العالي الذي تم تشكيله ليقوم بمهمة رئيس الدولة في السودان .
ولد شاعرنا 1898 بمدينة أم درمان واحدة من أعرق المدن السودانية وتوفي فيها 1973 .
وشاعرنا أنيق العبارة ، رصين اللغة ، جزل الصياغة ،جياش العاطفة ، يتسم بوثبة توترية وانفعالية عالية ، وحس وطني قوي ، وأدل علي ذلك النشيد الوطني " نحن جند الله ، جند الوطن "كان من ضمن قصائد أخرى شاركت في مسابقة عامة حول أعمال شعرية تشيد بقوة دفاع السودان1956 م ، اختيرت الأبيات الأولى من القصيدة لتكون نشيداً وطنياً. ولحنها الموسيقار العقيد أحمد مرجان من سلاح الموسيقىعام 1958م ، ويطلق عليه رسمياً اسم السلام الجمهوري ( خاصة عند عزفه موسيقياً) ، كما يسمي اختصارا، نشيد العلم ، أو تحية العلم :
نحن جند الله جند الوطن إن دعا داعى الفداء لن نخن
نتحدى الموت عند المحن نشترى المجد بأغلى
هذه الأرض لنا فليعش سوداننا علما بين الأمم
يابنى السودان هذا رمزكم يحمل العبء ويحمى أرضكم
فصار نشيدا وطنيا خالدا راسخا في نفوس أهل السودان يرددونه جيلا بعد جيل ؛ويسهم في بناء الروح الوطني عند أبنائه..
تحدث الأستاذ حسن نجيلة - ( المولود 1910 المتوفى 1983) - في كتابه ملامح من المجتمع السوداني حديثا شيقا عن زيارة الشاعر علي الجارم إلى السودان سنة 1937 ، واحتفاء الشعراء والأدباء بمقدمه ، وكان قد القى في حفل كبير آقيم في (الجراند أوتيل ) قصيدة بمناسبة عيد جلوس الملك فاروق ، وكانت له طريقة فذة في الإلقاء وجذابة إلى أبعد مدى ، وكان شوقي يكل إليه إلقاء شعره في المناسبات .وقد جاراه شاعرنا أحمد محمد صالح في تلك القصيدة ،وقد دعي إلى ذلك الحفل النخبة والصفوة من كبار البريطانيين ورجال الجاليات الأجنبية ومن بلغت بهم مكانتهم من السودانيين مستويات مثل هذا الحفل .ولم يدع شاعرنا إليه ونشرت جريدة النيل القصيدة كاملة في اليوم التالي وتناقلها الأدباء في شغف ورددوا أبياتها في إعجاب ، وكان شاعرنا قد اطلع على قصيدة الجارم قبل نشرها ، ونسج على منوالها ، ونشرت فى ذات الصحيفة بجانب قصيدة الجارم .
وهما موثقتان في كتاب حسن نجيلة الذي ذكرناه آنفا ، وسأختار منهما بعض الأبيات ،وقف الجارم في ذلك الحفل منشدا :
عيد الجلاء صدقت وعدك بالمنى وصدقت وعدي
علمت طير الواديين فغردت بحنين وجدي
ونظمت فيك فرائدا كانت لجيدك خير عقد
عيد الجلوس وكم حوت ذكراك من عز ومجد
فاروق يا أس الرجاء وملتقى الركن الأسد
جملت بالقول السديد وساطع الرأي الأسد
وهبت لك الدنيا مفاتح مجدها من غير رد
إني نزلت بجيرة بسل على النجدات حشد
أنسيت أهلي بينهم وسلوت إخواني وولدي
الضيف في ساحاتهم يجتاز من رفد لرفد
عقدوا خناصرهم على صدق الوفاء أشد عقد
ومضت أواصرنا تمد إلى العروبة خير مد
وفي اليوم التالي بعد الحفل نشرت قصيدة شاعرنا المبدع أحمد محمد صالح ، واحتفلت بها الأوساط الأدبية واحتدم النقاش بين النقاد أي القصيدتين أروع ، يقول في مجاراته للجارم :
أخلفت ياحسناء وعدى وجفوتني ومنعت رفدى
فينوس - يارمز الجمال ومتعة الأيام عندي
لما جلوك على الملأ وتخيروا الخطاب بعدى
هرعوا إليك جماعة وبقيت مثل السيف وحدى
استنجز الوعد النسيم وأسأل الركبان جهدى
يامن رأى الحسناء تخطر في ثياب اللازردى
لو كان زندى واريا لتهيبوا كفى وزندى
أو كان لى ذهب المعز لأحسنوا صلتى وودى
لما تنكر ودهم جازيتهم صدا بصد
ياوارث الأدب التليد وباني الأدب الأجد
علم شباب الواديين خلائق الرجل الأشد
علمهم أن الخنوع مذلة والجبن يردى
علمهم أن العقول تحررت من كل قيد
علمهم أن الحياة تسير في جزر ومد
علمهم أن التمسح بالفرنجة غير مجدى
وأبن لهم أن العروبة ركن اعزاز ومجد
وشاعرنا لم يكن شاعرا وطنيا يهتم بقضايا بلاده وحسب بل كان ينطلق في فضاء العروبة والإسلام الرحببين ، فهو يأسى ويحزن لكل حدث مؤسف في بلاد العروبة والإسلام ، وعندما اعتدى الفرنسيون على دمشق 1945 حرك ذلك مشاعر شاعرنا الملهم فجادت قريحته بهذه القصيدة :
صبرا دمشق فكل طرف باك لما استبيح مع الظلام حماك
جرح العروبة فيك جرح سائل بكت العروبة كلها لبكاك
جزعت عمان وروعت بغداد واهتزت ربا صنعاء يوم أساك
وقرأت في الخرطوم آيات الأسى وسمعت في بيروت أنة شاك
ضربوك لا متعففين سفاهة لم تأت إثما يا دمشق يداك
ورماك جبار يتيه بحوله شلت يمين العلج حين رماك
يقول حسن نجيلة في الجزء الثاني من كتابه ملامح من المجتمع السوداني وهو كتاب قيم لاسيما أن كاتبه عاصر تلك الأحداث وعاشها عن كثب بل كان مشاركا في صناعتها فأقواله يعتد بها " أستاذنا أحمد محمد صالح الكهل المشبوب الوجدان المفتون بالجمال المربي المتزمت المظهر ، الرقيق المخبر والذي قل أن يفصح عن حقيقة وجدانه في شعره ، تثيره قصيدة التني ، وتبعث فيه كوامن الحب والأسى وتكاد تلمح الدموع تتساقط من خلال كلماته الوجدانية من فرط تأثره وأساه "
ولكن قبل أن أكتب أبيات من قصيدة شاعرنا أستميحكم في أن أكتب أبيات من قصيدة الشاعر يوسف مصطفى التني التي هيجت عاطفة شاعرنا :
ذهب البشر اللعوب وحلا الحزن الرهيب
فأعذروني ياصحابي كم نأى عني حبيب
والصبى الناعم في شخصي حبيب لايشيب
غاب عني مثلما ينسلخ البرق الخلوب
أيها المنكر حزني فاتك الرأي المصيب
ذاك ترياق فؤدي كم نأى عنه حبيب
أما شاعرنا أحمد فقال :
غرك الوعد الكذوب هو كالبرق الخلوب
كم نفوس حائرات بين خفق ووجيب
ذكريني عيش المؤنق والمرعى الخصيب
وشباب سائل الغرة ريان القضيب
أيقظي شيطان شعري عل شيطاني يجيب
تلك أحلام شبابي آذنتني بالمغيب
وحبيب غاب عن أفقي فالأفق جديب
لج في الهجران حتى خلته ليس يؤوب
ساحر النغمة والخطرة بسام طروب
سابغ النعمة موفور الصبا غر لعوب
راعه هذا المشيب فتولى لايجيب
قلت يا ابن مرآك وإن ضاء كئيب
أنت في العين قذاها أنت والله مريب !
أنت بددت أماني فمالت للغروب
بأبي من خلف اللوعة والجفن السكوب
هجر النيل فليس العيش في النيل يطيب
ومضى يحتل نجدا وهو في النجد غريب
بلغيه أنني مذ غاب ياريح الجنوب
شارد اللب قليل الصبر موصول النحيب
هذه بعض اللمحات من سيرة وشاعرية ( الأستاذ الشاعر) أحمد محمد صالح ، . فهوصاحب كارزمة تربوية من طراز فريد ،حيث كان الأستاذ في ذلك العصر الذهبي مهابا ، ومقدرا ، ومتميزا في كل شيء في ملبسه الأنيق ، وذوقه الرفيع ،وعطره الباريسي الأصيل المميز الذي يشم من مكان بعيد . فشاعرنا كان أنيق الهيئه ، جزل اللفظ ، متزن الخيال ، قوي العاطفة ، تنقاد إليه شوارد القوافي في سهولة ويسر، ويسهر الخلق جراها ويختصم .
|
|
|
|
|