|
|
اللغة الشاعرة - 6
د. محمد سعيد حسب النبي
أوزان الشعر
يشير العقاد في كتابه اللغة الشاعرة إلى ما يمكن اعتباره أبلغ ما تقدم في الإبانة عن معدن اللغة العربية وعن هذه الخاصة الفنية فيها أن أوزانها تتفق في ترتيل فصيح ولو لم يكن شعراً مقصوداً كما اتفقت في الآيات الكثيرة من القرآن الكريم، وينبغي أن يؤمن المسلم وغير المسلم بأن القرآن الكريم لم يكن شعراً وما هو بقول شاعر كما جاء فيه وكما جاء في كلام الرسول الذي أوحي إليه، وقد ساق العقاد عدداً من الأمثلة على ذلك منها:
ما يوافق وزن البحر الطويل: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف، 29)
وما يوافق وزن البحر المديد: "إن قارون كان من قوم موسى" (القصص، 76)
ومما يوافق وزن البحر البسيط: "فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم" (الأحقاف، 25)
ومما يوافق وزن البحر الكامل: "صلوا عليه وسلموا تسليماً" (الأحزاب، 56)
ومما يوافق وزن البحر الخفيف: "وتوكل على العزيز الرحيم" (الشعراء، 217)
ومما يوافق وزن بحر الرمل: "إنهم رجس ومأواهم جهنم" (التوبة، 95)
وما اتفق فيه وزن بيت كامل:
"لن تنالوا البر حتى ..تنفقوا مما تحبون" (آل عمران، 92)
"ومن تزكى فإنما ..يتزكى لنفسه" (فاطر، 18)
"وجفان كالجواب.. وقدور راسيات" (سبأ، 13)
"ويخزهم وينصركم عليهم.. ويشف صدور قوم مؤمنين" (التوبة، 14)
"وقرآناً فرقناه ..لتقرأه على الناس" (الإسراء، 106)
وهذا وأمثاله يطرد في كل كلام عربي مرتل فصيح، ولا يعهد له نظير في اللغات الأخرى ولو كانت من اللغات التي يتقارب فيها الشعر والنثر ولم يبلغ فنها الشعري مبلغ العروض العربية من دقة التقسيم والتفصيل.
ويخلص العقاد من جملة هذه الخصائص في الشعر العربي واللغة العربية أن فن النظم بهذه اللغة فن دقيق كامل الأداة مستغن بأوزانه عن سائر الفنون، ولكنه –على هذا- فن مطبوع لا كلفة فيه على قائل ذي قدرة على التعبير له نصيب من الشاعرية والملكة الفنية.
ومن هنا يظهر كل الظهور أن الدعوة إلى إلغاء الأوزان ذات البحور والقوافي في اللغة العربية لا تأتي من جانب سليم ولا تؤدي إلى غاية سليمة، فلا يدعو إليها غير واحد من اثنين: عاجز عن النظم الذي استطاعه الشاعر العامي في نظم القصص المطولة والملاحم التاريخية من أمثال السيرة الهلالية وسيرة الزير سالم وغيرها من السير المشهورة المتداولة، أوعاجز عن النظم الذي استطاعه الشاعر العامي والشاعرة العامية في نظم أغاني الأعراس ونواح المآتم وأمثال الحكمة والنصيحة على ألسنة المتكلمين باللهجات الدارجة، ولا خير للفن في كلام يقوله من يعجز عن هذا القدر من السليقة الشاعرية والملكة الفنية، وأحرى به أن يأتي بما عنده في كلام منثور ويترك النظم وشأنه بدلاً من هدم الفن كله وحرمان اللغة من آثار القادرين عليه، ويستشهد العقاد بالقصاصين وناظمي الملاحم العامية والأغاني الشائعة لأن استطاعتهم نظم القصص والملاحم والأغاني والأناشيد بغير تعلم ولا معرفة ثقافية ينفي عن الأوزان العربية تلك الصعوبة المزعومة التي يدعي الأدعياء أنها تجعل النظم العربي من أصعب فنون النظم في اللغات العالمية، ويسكت العقاد عمداً عن الملاحم المترجمة التي نقلها إلى العربية أناس من المثقفين المطلعين على الآداب والعلوم، فإن المتشاعرين الأدعياء قد يزعمون أن تذليل هذه الصعوبة عمل يحتاج إلى الثقافة والاطلاع ولا يقتدر عليه عامة المترجمين.
ويؤكد العقاد أن نقص الملكة الفنية سبب العجز عن أوزان الشعر العربي والدعوة إلى إبطال هذه الأوزان فهو إذن عمل من أعمال الهدم الصراح عن سوء نية وخبث طوية، يتعمده المجاهرون به لتقويض معالم اللغة ومحو آثار الأدب وفصم العلاقة الفكرية بين روائع الثقافة العربية في مختلف العصور، وتلك شنشنة نعهدها –كما يقول العقاد- في العصر الحاضر من دعاة الهدم إن لم يكن هذا عملهم المقصود من وراء الستار؟
إن هدم الفن الجميل الذي امتازت به لغة العرب بين لغات العالم لا يصدر إلا عن عجز أو إصرار على الهدم.. ولا خير في دعوة يتولاها العاجز العقيم والضغينة النكراء.
|
|
|
|
|