|
|
الأسلمة والأسلفة وضياع الهويّة العربيّة
د. محمد بدوي مصطفى
في كل بقعة تجدها مسترسلة ناصعة البياض ترقد على محيط وجوه سمراء مستديرة. تعلوها "زبيبة" بلون بلح موسم قضى، تغطي الجبين في استواء وامتداد. يسعى بها رجال بعمامات خضراء مستبرقة في كل مكان، فيعكس صفاء بياضها لمن يراها طمأنينة عميقة وتقوى راسخة وايمان لا يتزعزع. لا يعتريك عند رؤيتها أي شك ولا يتبدّى بها أي مؤشر يدلُّ على نفاق أو ضلال! نعم هي ذقون طويلة ولحي مسترسلة لرجال خلقوا للعصمة والزهد! ومن ورائها (أي الذقون) ترى نسوة "يتزملن" عباءات سوداء كالخيم، يتطلعن بأعينهن المشرئبة إلى الأفق من وراء أستار شفافة؛ توحي تلك الأعين نظرة غامضة، ما هي يا تُرى؟ لوحة مستقاة من صميم واقعنا، ومن قلب أسواقنا وطرقاتنا، تُجسّم طابعا لم تعرفه قبل عقدين من الزمان - بهذه الكثافة - إلا قلّة من بلدان العالم العربي، فمن يا تُرى رسم أو قل خلق هذه اللوحة؟ أهل هي وجه لوطن عربيّ غريب لا نعرفه، أُلبِسَ ثوب هويّة غريبة عنه؟
إن ضياع الهوية العربية في غضون العقدين السابقين (لنأخذ مصر، السودان، والأردن كأمثلة) والتي تجسمت في "أسلفة" المجتمع، صار أمرا واقعا وملموسا نحسه أيضا في عملية تجريد الدين وافراغه من مضامينه وجوهره المثالي وجعله جسد سطحي مفرغ بلا روح. لقد استحوذ الزحف الصحراوي للتدين الزائف كل طبقات المجتمع في البادية وفي الحضر فصار داءاً عضال وسِتاراً تختفي من وراءه أعنف صور الإجرام والانحراف السلوكي. لقد ظلت الحكومات تعمل بنظام الجماعات التبشيرية المسيحية أو جماعات السينتولجي والتي ترمي أولا إلى توسيع رقعة الأسلفة أو قل الأسلمة السياسية بغرض التحكم التام في الفرد. وفي هذه المنظومة يحل الرجل الأكبر من المتأسلفين المتأسلمين محل الخالق محتكرا بذلك السلطة التشريعية والثوابية والعقابية عبر تنصيبه لنفسه وحدها دون منازع "خليفة الله على الأرض" ومن ثمّة يكون له كل الحريّة في تفسير، شرح وتطبيق إرادة الذات الإلهية حسب فهمه لها حتى ولو كان بليدا لا يفهم أو خاطئا خطأ ذريعا في تفاسيره وتحليلاته للأمور. لذلك فقد صار الدين عندنا ادراكا متخيّلاً يتلحف عباءات الأُلوهيّة. لعلمكم سادتي، لم يصير أهلنا في عالمنا العربيّ المترامي من المحيط إلى الخليج أكثر اسلاما وتقوى بعد مجيئ هؤلاء لأننا في الأصل مسلمين، ولم نحصل على رخصة "الإسلام" بعد الحصول على الرقم الوطني المختوم بختم الأسلفة كما يحسب بعض الفضلاء.
لقد أثبتت أنظمة الأسلفة المتأسلمة التي اتسعت رقعتها منذ نهاية الألفية الثانية بصورة مزعجة في كل البلاد الإسلامية، سيما في السعودية، مصر، ليبيا، الأردن، سوريا وبالسودان أن سياساتها لا تخلو من انحطاط أخلاقي للسلطة، ومن تدهور قيميّ للدولة والمجتمع. لذا فالدولة ورجالاتها – قل الكل - يلجؤون إلى نظام "التكوين العكسي" المعروف في علم النفس. أي أنهم يُظهرون أمام الناس، لا شعوريا، وجها لإسلام متعصب ومتشدد - فقط - على الآخرين، مستبيحين الحرمات لأنفسهم. إسلاما لم يعرفوه أو يعيشوه من قبل، ذلك ليوهموا أنفسهم أولا ومن ثمة بقية الشعب المغلوب على أمره، أنهم في دخيلتهم فاضلون، يوتوبيون، كرماء وفي قمة النزاهة. فتحليل هوية جنود السلف من المأسلمين المتأسلمين (كفاعل وكمن وقع عليه فعل الفاعل) يمكن أن نفسره بالآتي: ليس لمعظمهم غرض بجوهر الدين الحنيف وبالقيم الروحانية له؛ إذ أننا نشهد تغيرا جذرياً للقيم المتعارف عليها والتي حلّت محلها طقوس التهليل والتكبير والتقوى المضللة والصلاح الزائف وطقوس الجنس والاباحيّة المتسترة في كل المحافل. فتحوّل الدين إلى روتين جماعي يبتغي الأفراد من وراءه مكاسب ومصالح شخصيّة فطغت عليه روح السطحيّة والطقوسية مما أدى إلى انحسار ضمير الفرد ليحل محله ضمير خارجي هشّ تحركه فتاوي قائمة على تصورات متخيّلة للذات الإلهية. والنتيجة، ضاعت هويّتنا الأصلية التي عرفناها وصرنا نبحث عنها في ماض السبعينات والثمانينات ولكن سدا. وهكذا تجد على سبيل المثال لا الحصر، في مصر وسوريا وفي السودان في خلال العقدين الماضين قد تغيرت هويّة الشعوب التي "تُؤسلمت وتُسُلِّفت" دون رجعة. فشتّان ما بين هوية مصر، سوريا وسودان اليوم ومصر وسوريا وسودان زمان! فالرجل المتأسلم اليوم له حاجة ماسة في اشباع غرائزه الدنيوية، دون ايمان بالقيم اللاهوتية الحقيقة والجوهريّة للإسلام، إذ تحركه دوافع بعيدة كل البعد عن سمات الورع والنزاهة التي ألفناها في أهل الذكر الحكيم. فهم أغلب الظن أقرب لسلطان الدنيا من سلطان الآخرة.
أما إذا سألنا أنفسنا بصدق وأمانة ما هي اهتمامات الرجل العربي خلال يومه، تجد الكل يفعل نفس الشيء: المسارعة للحاق بركب صلاة الجماعة، محافظين على الوقت بالدقيقة والثانية، والامساك بكوب العصير المسكر الفاخر قبل ثانية من آذان المغرب في شهر رمضان. وحتى في ساعات العمل الرسمية فالمؤسسات الحكومية خير مثال لذلك التسيب. رغم ذلك فهل يؤدي الفرد منّا واجبه تجاه الوطن وتجاه ذويه كما ينبغي؟ ذكر أحد المتأسلمين من جنود السلف وهو مفتخر بذلك، بأن بعض أصدقاءه في الله من أئمة العصر ينادون بإغلاق كل المواقع الإلكترونية والجامعات والمكاتب والمحال التجاريّة أثناء الصلوات ومنهم من ينادي بتعطيل الإنتاج وتجميد العمل وايقاف حركة الناس والمركبات على حد سواء في الشوارع وفي إشارات المرور. لذا يجب علينا أن نأخذ تصريحات خطيرة كهذه بكل جديّة واعتبار راسخ. وكل شيء ممكن تحت سماوات العرب.
لقد صرنا في مجتمعاتنا نتمسك بسفاسف الأمور دون ادراك جوهرها ولب حقائقها الدفينة، فلبسنا ثوب هويّة أخرى لا تَمُتُّ لنا بصلة. وهانحنذا نرى الوضع الذليل والمتدهور الذي نعيشه والذي ما زال يتفاقم من يوم أي آخر. فأين موقع العالم العربيّ من المنظومة العالمية، اجتماعية كانت أم علميّة. لقد انشغلنا بالدين والتدين الزائف أكثر من انشغالنا بتطوير ذواتنا والبيئة التي نعيش بها في اطار العالم المتحضر. فمشى ركب الأمم وبقينا "كحال زيدان الكسلان عندما يقول: غدا أحرث من هنا إلى هناك"، صرنا لا نحرك ساكن، في عهد ينبغي علينا جمعيا أن نعمل فيه بمبدأ: "الدين المعاملة" و"العمل عبادة".
رجع أخونا يتذكر تلك اللوحة: رجال بذقون بيضاء ونساء في عباءات سوداء يتطلعن إلى الأفق من وراء أستارهن الشفافة وهو ينطبق رويدا رويدا على الأرض. فهو كعادته ينطبق على أرضنا هذه دون أخرى، فيعصرها عصرا حتى تزهق روحها وتحيا بعد لأي من بعد ليعيد عليها الكرّة. فنحن كل يوم نموت وفي الغد نحيا لنموت وهلم جرّ.
|
|
|
|
|