|
|
اللغة والكتابة
م. محمد يحيى كعدان
يجب أن نُفرِّق بين اللغة والكتابة، التي هي وسيلة تسجيل للغة تنجح قليلاً أو كثيراً.
إذ من الملاحظ أن الكتابة لم تكن تُعبِّر عن كل اللغة وخاصة في مراحل الكتابة الأوّلية، حتى أن بعض اللغات بقيت غير مكتوبة، وقد عرفت معظم شعوب العالم طرقاً بدائية للكتابة بشكل مستقل، ولكن تطور هذه الطرق كان نسبياً بينها.
ومن أهم طرق الكتابة هي الكتابة التصويرية، بتصوير المحسوس كاملاً أو جزئياً، مثل رسم الثور كاملاً أو رسم رأسه فقط للدلالة عليه؛ أما المعاني المجرّدة فتم تصويرها برسم صور معبِّرة عنها، فعبَّرت الهيروغليفية عن الشيخوخة برجل يستند إلى عكّاز، وعن الجوع برجل يضع يده على فمه، وهكذا... ؛ وتم التعبير عن الأسماء المشتقة من البيئة بتصوير كلمة محسوسة تتطابق في لفظها مع الاسم المراد، كأن نرسم حجراً ورجلاً للدلالة على رجل اسمه صخر مثلاً.
أمّا الكتابة المسمارية فتُعتبر مرحلة متطورة بالنسبة للكتابة التصويرية؛ فهي تحلل الصوت الإنساني، إلى مقاطع؛ وتجعل لكل مقطع رمزاً، بلغت فيما يُسمى البابلية والآشورية ثمانية آلاف رمز تقريباً، يكفي عملياً من ألف إلى ألفين منها ليكون المرء كاتباً في أمور الحياة غير الاختصاصية؛ أما الطب والفلك والهندسة والرياضيات والسحر فلها مصطلحاتها ورموزها التي لا ترِد كثيراً في الحياة العامة.
والكتابة المقطعيّة عبارة عن رموز لأصوات صامتة تتبعها أصوات صائتة، ولا توجد هذه الرموز مستقلة عن بعضها، لذا نجد مئات الرموز بل الآلاف للتعبير فيها.
وفي تطور لاحق للكتابة المسمارية تم الكشف عنه عام 1928 م في حفريات رأس شمرة في سورية، وفي موقع مدينة أثرية هي أوغاريت، حيث وُجدت نقوش مسمارية كثيرة تعود إلى حوالي 1500 قبل الميلاد، لوحظ أن هذه الكتابات المسمارية تعتمد على ثلاثين رمزاً لا غير، تمثل أول أبجدية مكتشفة في التاريخ، وكتبت بها ما يُسمى الفينيقية والكنعانية.
المكتشفات السابقة تحتل مكانة عالية من الأهمية في تاريخ الكتابة، إذ تحدد مرحلة الانتقال من الكتابة المقطعية إلى الأبجدية، ضمن ما يُسمى بالخط المسماري المنقوش في الطين.
ويَعتبر اللغويون أن اللغات التي كتاباتها مقطعية، لم تدرك الأبجدية، وفي رأينا أن العكس هو الصحيح، فلهذه اللغة أبجديتها الأوّلية، باعتبار أن الأبجدية هي الوحدات الذريَّة للألفاظ أو الأصوات في تلك اللغة. فالأبجدية الحالية ما هي إلا اكتشاف للرموز الصائتة وفصلها عن الرموز الصامتة في المقاطع اللفظية، مما أدى لاختصار عدد الرموز في الكتابة.
لو أخذنا في العربية مثلاً الأحرف الأبجدية التي تُعتبر أحرفاً صامتة، وقمنا بتحريكها بالحركات فإننا نحصل على المقاطع. فمثلاً تْ حرف صامت، ولكن تَ أو تُ أو تِ تُعتبر مقاطعَ ذات صوت صامت يتبعه صوت صائت.
وهكذا لو جعلنا لكل حرف في العربية وليكن التاء مثلاً أربعة رموز بدلاً من رمز واحد، بحيث يُعبِّر الرمز الأول عن تْ والثاني عن تَ والثالث عن تُ والرابع عن تِ ، فإننا سنحصل على أبجدية يصل تعداد حروفها إلى (28´ 4 = 112) مائة واثني عشر حرفاً، فإذا أضفنا إليها المقاطع ذات الأصوات المشبعة من مثل: تا ، تو ، تي وجعلنا أيضاً لكل مقطع رمزاً خاصاً، فيصل تعداد الأبجدية إلى:
(112 + ( 28 ´ 3 ) = 196) مائة وستة وتسعين حرفاً، وهكذا إذا عبَّرنا عن كل المقاطع في اللغة العربية برموز خاصة فإننا سنحصل في النهاية على ما يُسمى بالكتابة المقطعية.
ومنه نرى بوضوح أن الأبجدية ما هي إلا اختزال لترميز المقاطع الصوتية، بفصل الأحرف الصامتة عن الصائتة، وهذا لا يعني أبداً تحولاً أو تطوراً في اللغة المحكية بل في كتابتها.
تطورت الكتابة عبر العصور باتجاه ازدياد الدقة في تمثيل اللغة المحكية، فالعرب قديماً لفظوا الكلمات مُعربة (مشكولة)، ولكن وضع الحركات في الكتابة جاء متأخراً على يد الفراهيدي، وبالتالي أصبحت الكتابة العربية أقرب إلى اللغة المحكية، وفيما بعد تم وضع علامات الترقيم من استفهام وتعجب وفواصل... الخ، لتدل على أسلوب أو طريقة نطق اللغة المحكية من قبل المتكلم، وبالتالي أصبحت الكتابة أكثر تمثيلاً لهذه اللغة.
في الواقع، كل تلك الأحرف الصامتة والحركات، مع علامات الترقيم (التي تسجل أسلوب المتكلم في الحديث) هي بمجموعها أبجدية لكتابة اللغة.
ثبت أن ترتيب الأبجدية الصامتة في اللغة العربية حسب المكتشفات الأثرية هو ترتيب "أبجد هوز" وليس ترتيب المعجم، وأن عددها هو ثمانية وعشرون حرفاً، هي أحرف: "أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ". فإذا أضفنا إليها الحركات التي نعتبرها أبجدية صائتة وهي: الفتح، الضم، الكسر، السكون؛ تصبح لدينا اثنين وثلاثين حرفاً.
سنعمل معاً على كشف نحوٍ جديد للغة العربية، أكثر دقة وتطويعاً من الأنحاء المكتشفة السابقة، التي عملت عليها مدارس مختلفة، مثّلها لغويون قدماء من بلاد المسلمين تمركزوا في البصرة والكوفة وفي غيرهما.
قد يستغرب بعضهم التجريد الكبير للعمل، ولكن لن يستقيم العمل دونه فالتجريد غاية، فهو اللغة لأنه القانون أو الفطرة.
من الغريب أنه لا يستغرب أحد التجريد في الرياضيات وعمق النتائج التي توصل إليها الإنسان قديماً.
وكما في الرياضيات، حيث نجد أن معادلة ما هي قالب مجرّد قابل للتعبير عن معالم لعدة حوادث فيزيائية، سنجد أن اللغة أيضاً عبارة عن صيغ أو قوالب مجرّدة تقوم العناصر الفيزيائية بعد ذلك بإملائها، وبالتالي تشبه الأبجدية الأعداد تماماً التي تدل على معدودات مختلفة، فالمعدود قد يكون جماداً أو نباتاً أو... إلخ. ومنه لن نجد أي فرق بين الرياضيات واللغة شكلاً ومضموناً.
لنتأمّل نظام العدّ العشري مثلاً، وهو كأي جزء من الرياضيات لغة مجرَّدة، تُعبِّر عن علاقةٍ بين معدودات مختلفة. ولنفترض أننا لم نكتشف الرموز العشرة لهذا النظام (وهي: 0 ، 1 ، 2 ، 3 ، 4 ، 5 ، 6 ، 7 ، 8 ، 9)، ولا نظام التشكيل العددي منها.
عندها سنضطر لوضع رمز لكل عدد وسنضع قاموساً لهذه الأعداد حتى نستطيع فهم رموزها وحتماً سيكون هذا القاموس ثقيلاً جداً بل لانهائياً، لأن الأعداد غير منتهية.
وهكذا نرى أننا محظوظون كثيراً بنظامنا العددي!
والآن لنفترض أنه لدينا (كما هو في الواقع) بطريقة مشابهة رموزاً أبجدية، ونظاماً لتعريف العناصر بها. فإننا سنستغني عن القاموس، أو سيتم حصره في الكلمات الاصطلاحية فقط (علماً أن هذه الأخيرة يمكن الاستغناء عنها، باستبدالها بكلمات نظامية). عندها سيصبح التفاهم دقيقاً دقة الرقم.
إن دقة الرقم، مكَّن الإنسان من الاعتماد عليه في بناء الآلات الحاسبة. ودقة اللغة بالمقابل ستُمَكِّنُهُ من بناء الآلات الناطقة غير المستندة إلى قواميس الاسترجاع اللانهائية المفردات.
لكن ينبغي أيضاً أن نُقِرّ أن هذه اللغة رغم دقتها، لن تكون بمتناول الجميع بدرجة واحدة (رغم أنها تلبي مطلبهم جميعاً، وهذا ينطبق أيضاً على اللغات ذات الأنحاء - جمع نحو - السائدة حالياً)، وينتج هذا عن اختلاف الاستعدادات البشرية، الذي نراه واضحاً من التعامل البشري المختلف مع الأعداد وأنظمتها.
إن دراستنا تعتمد المفاهيم الأوّلية للمنطق كمسلَّمات تُستنتج منها النتائج التفسيرية للنظرية اللسانية.
والبناء المنطقي وفقاً لنظام المسلَّمات أسلوب فطري، اكتشفه الإنسان قديماً واستخدمه بفاعلية لتفسير ما حوله والتفاعل مع بيئته، وليس أدلّ على قدم اكتشاف هذا الأسلوب مما يُسمّى بأعمال إقليدس في الهندسة المستوية.
من الجدير بالملاحظة أن الدين الإسلامي يعتمد هذا المنطق الفطري، إذ سُمي المسلم مسلماً لتسليمه بمبادئ أساسية يلتزم بما ينتج عنها، هذه المبادئ هي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقضاء والقدر خيره وشرّه من الله تعالى، حيث يعني الإيمان التسليم والتصديق معاً.
إن من أهم ما نقابل من المفردات اللغوية هي الأسماء، ونلاحظ أن التسمية عموماً من الممكن أن تكون اعتبارية، فيمكننا إطلاق أي رمز أو مصطلح (اسم) على عنصر ما، وهذا ما نفعله عند تسمية أولادنا، أو عند دخول كلمة من لغة إلى لغة أخرى إذ تصبح اصطلاحاً في اللغة الجديدة.
ولكن أليست لغةٌ كاملُ مفرداتها اعتبارية أو اصطلاحية هي لغة مرهِقة، وتضطر المرء لحفظ قاموس ثقيل جداً إذا كانت غنية؟
أليس من الأفضل أن يحمل أو يدل الرمز أو المصطلح (الاسم) على تعريف المسمى استناداً لعدد غير كبير من المعرَّفات كما في نظام العدّ؟ ألم يكن عمل جدودنا عظيماً عندما قللوا عدد الرموز المقطعية واكتشفوا الأبجدية؟
الغاية الرئيسة لأية لغة تأمين المقدرة على التفاهم بدقة ويسْر، ومنه كلما ازدادت تلك المقدرة فإننا نقترب من اللغة الكاملة. لذا نعتبر في نظام التفاهم الدقيق واليسير أن التسمية أو أن معاني الكلمات غير اعتبارية، وهذا ما سنجده في اللغة العربية الأم.
في مطلع القرن العشرين تمكن الفيلسوف برتراند رسل من دمج الرياضيات والمنطق في كتابه:
" مبادئ الرياضيات The Principles of Mathematics "
وفي هذا العمل نطلق مقولة: لا فرق بين اللغة والرياضيات.
فاللغة منطق .. والرياضيات منطق، نتفق جميعاً على أنها لغة العلم..
|
|
|
|
|