|
|
من آلات تنمية الثروة اللفظية في العربية
أ.د. ياسر الملاح
(2) النحت
بيّنا في مقالةٍ سابقةٍ آلة من آلاتِ تنميةِ الثروةِ اللفظيةِ في العربيةِ هي آلة الاشتقاقِ، وسنشرَعُ، في هذه المقالةِ، في بيانِ آلةٍ أخرى مِنْ هذه الآلاتِ هي آلة النّحْتِ. أما المَعنى اللغويُ لهذا المصطلح فيُعرفُ مِمّا وردَ في لسانِ العرب (نحت) : " النحتُ : النشرُ والقشرُ. والنحتُ : نحت النجارُ الخشبَ... و نحتَ الجبلَ ينحِته قطعه... وفي التنزيلِ العزيزِ : " وتنحِتون من الجبالِ بُيُوتا آمنين"...والنحائتُ : آبارٌ معروفة لأنها نحِتتْ أيْ قطِعتْ... والنحيتُ : الدخيلُ في القومِ... والنحيتُ : الرديءُ من كلِ شيءٍ". وأما المعنى الاصطلاحيُ فأولُ منْ أشارَ إليه الخليلُ بنُ أحمدَ في العينِ إذ قالَ، رحِمَه اللهُ : " أخذوا منْ كلمتينِ متعاقبتينِ كلِمَة واشتقوا فعلا"، ثم تلاه سيبويهِ في الكتاب، ولم يذكرْ مُصطلحَ النحْتِ، فقال:"... وقدْ يَجْعلون للنسب في الإضافةِ اسما بمنزلةِ جعفر، ويَجْعلون فيه من حُروفِ الأولِ والآخرِ، ولا يُخرجونه منْ حُروفِهما ليُعرفَ، كما قالوا: سِبَطر، فجعلوا فيه حُروفَ السَّبطِ إذ كان المعنى واحِدا، وَسَتَرى بيانَ ذلك في بابه، إنْ شاءَ الله، فمِنْ ذلك عَبْشَمِيّ، وعَبْدَرِيّ، وليسَ هذا بالقِياسِ، إنما قالوا هذا كما قالوا عُلويّ وزبانِيّ"، وابنُ فارسٍ في مُعجم مقاييسِ اللغةِ والصاحبي في فقه اللغة، وعندما اسْتقرَ المصطلحُ كتب عددٌ من المُحدثين عنه، وقلما نجدُ كتابا في موضوع علمِ اللغةِ العربيةِ لا يُفردُ له مساحة خاصّة تكبرُ أو تصغرُ وَفقَ جهدِ الباحثِ واطلاعِه. وقد عدّه قومٌ من أنواع الاشتقاقِ فسمّاه " الاشتقاق الكُبّار" مثل السيد عبد الله أمين في كتابه "الاشتقاق"، والدكتور صبحي الصالح في كتابه "دراسات في فقه اللغة".
ولا نريدُ أنْ ندخلَ في الجدلِ الذي دارَ بين عددٍ من الباحثين حولَ قياسيّةِ النحتِ أو سماعيّتِه، وذلك من القدماءِ والمحدثين، إذ لا قيمة الآن لِوُلوج هذا الميدانِ، بعد أنْ ثبت المُصطلحُ، وبعدَ أنْ أجْمعَ نفرٌ كبيرٌ منهم بقياسيته، وبخاصةٍ ابنُ فارسٍ الذي ابتدع لنفسِه مَذهبا في النحتِ فقالَ في مقاييسِه :" اعلمْ أنّ للرباعيِّ والخماسيِّ مَذهبا في القِياسِ، يَسْتنبطه النظرُ الدقيقُ. وذلك أنّ أكثرَ ما تراه منه مَنحوتٌ. ومَعنى النّحْتِ : أنْ تؤخذ كلمتانِ وتنحِتُ منهما كلمة تكونُ آخذة منهما جميعا بحَظٍ "، وورد في الصاحبي عنه قوله :" العربُ تنْحِتُ من كلمتين كلمة واحدة، وهو جِنْسٌ من الِاخْتصارِ. وذلك ( رجلٌ عبشميٌّ، منسوبٌ إلى اسمين، وأنشدَ الخليلُ :
أقولُ لها ودمعُ العينِ جارٍ ألمْ يَحزنْك حَيْعَلة المُنادي
من قوله : حيّ على".
وكذلك بعدَ أنْ أقرّه مَجْمَعُ اللغةِ العربيةِ في القاهرةِ إذ وردَ في قرارِه:" النحتُ ظاهرة لغوية أخذ بها قديما وحَديثا، وقد وردتْ منه كثرة تجيز قِياسيّته، فيُنحتُ عند الحاجةِ من كلمتين أو أكثرَ على أنْ يُستعملَ الحرفُ الأصليُ دون الزائدِ، وأنْ يُلتزمَ الوزنُ العربيُ إذا كان المنحوتُ اسما وأنْ تُضافَ ياءُ النسب إنْ كان وصْفا، نحوَ عبشميٍ في عبد شمس وأنْ يُقتصرَ على فَعْللَ وتفعْللَ إنْ كان فِعْلا إلا إذا اقتضتِ الضرورة غيرَ ذلك". وعلى الرُغمِ منْ أنّ قرارَ المَجْمَعِ قد أخذ بتحَفظٍ، وضِمْن قيودٍ كما وردَ في النصِ فإنه قرارٌ حكيمٌ ومُتنورٌ، لأنّ أحدا لا يَستطيعُ أنْ يَسُنّ القوانين والقواعدَ للمُتكلمِ إذا أراد أنْ يتكلمَ فيشتق أو ينحت أو يُعرب. وعليه فإنّ النحتَ أصبحَ، تحتَ ضغطِ الحاجةِ، ومسايرة للتطورِ الحضاريِّ، ضرورة منْ ضروراتِ العصرِ الذي نعيشُ فيه، وبخاصةٍ في موضوع تنميةِ الثروةِ اللفظيةِ في العربيةِ. وقد وَجَدَ فيه عددٌ منْ رِجالاتِ العلومِ الحديثةِ، كالمشتغلين في الطب والصيدلة والكيمياء وعلوم النبات والحاسوب والصناعات الثقيلة والإعلام والأقمار الصناعية وغيرها، وبخاصةٍ مَنْ لهمُ اتصالٌ مباشرٌ بالعلومِ الغربيةِ الحديثةِ البحتةِ والعلومِ الإنسانيةِ، ممن يَدْرُسون هذه العلومَ في الغرب، وجدوا فيه ضالتَهم المَنشودة لتزويدِ العربيةِ بمصطلحاتٍ لا يمكنُ أنْ تكونَ ترجمتها الحَرْفِية مُرْضِية للذوقِ العربيِّ واللغويِّ، فأقبلوا على نحتِ مصطلحاتٍ لفظيةٍ جديدةِ تناسبُ الموضوع وتتناسبُ مع الذوقِ العصريِّ.
وسَأورِدُ فيما يَأتي مُعجَما صغيرا لبعضِ المَنْحوتاتِ في العربيةِ لعَلها تكونُ عَيّنَة لدراسةِ بعضِ القوانينِ التي خضعَ لها النحتُ في العربيةِ، وذلك منْ حَيْث بنيتُها وعددُ حروفِها. أما العينة التي ستكونُ أساسا للنظرِ في هذه القواعدِ فهي :
بَأبَأ : من بأبي أنت وأمي، وبَحْترَ : من بتر و حتر، وبَحْثرَ : من بثر وبحث، وبَخْذع : من بذع وخذع، وبَرْجَدَ : من بجد وبرد، وبَرْقشَ : من برش ورقش، وبَزمَخ : من بزخ و زمخ، وبَسْمَلَ : من بسم الله، وبَلخَبيثةِ : من بني الخبيثة، وبَلخصَ : من بخص ولخص، وبَلطحَ : بلط وبطح، وبَلعَمَ : من بلع و طعم، وبَلهَجيم : من بني الهجيم، وجَعْفلَ (جَعْفدَ) : جُعلتُ فداك، وجَمْهرَ : جهر و جمر، وحَدْرَجَ : من حدر ودرج، وحَسْبَلَ : حسبي الله، وحَمْدَلَ : من الحمد لله، وحَوْقلَ (حَوْلقَ) : من لا حول ولا قوة إلا بالله، وحَيْعَلَ : من حيّ على، ودَمْعَزَ : من أدام الله عزك، وسَبْحَلَ : من سُبحان الله، وسَمْعَلَ : من السلام عليكم، وشَقحْطب : من شق وحطب، وصَقعَبٌ : من صعب وصقب، وصِلدِمٌ : من صلد وصدم، وصَلقمٌ : من صلق ولقم، وصَهْصَلقٌ : من صهل وصلق، وضِبَطرٌ : من ضبط وضبر، وطلبقَ(طبقل) : من أطال الله بقاءك، وعَبْدريّ : من عبد الدار، وعَبْدليّ : من عبد الله، وعبشمي : من عبد شمس، وعَبْقسيّ : من عبد القيس، وقصْلب : من قوي وصلب، وكبر : من الله أكبر، ومَسْجَنيّات : مستقيمات الأجنحة، وهلم : من هل وأم .
وبعدَ النظرِ في هذه العَيّنةِ يمكنُنا استخلاصُ القواعدِ الآتيةِ لعددِ حروفِ المنحوتِ، وكيفيةِ نحتِهِ، ومنْ أين أخذ :
1) ثلاثي : مثل : هلم إذا اعتبرنا الميم صوتا واحدا.
2) رباعي : مثل : بحتر، والرباعي، كما يُلحظ في العينة، هو أكثر هذه الأنواع.
3) خماسي : مثل : شقحطب وصهصلق.
4) سداسي : مثل : بلهجيم .
5) سباعي : مثل : بلخبيثة .
كما يُمكننا مُلاحظة أنّ بعضَ هذه المنحوتاتِ أخذ منْ :
1) مَقطع واحدٍ مثل : بأبأ التي أخذت من مقطع ( بأ) في كلمة (بأبي).
2) حرفين مثل : هلم . ومثل : لنْ التي أخذت من (لا) و(أن) على ما ذهب إليه الخليلُ بن أحمدَ.
3) كلمتين مثل : برقش وغيرها كثيرٌ، وهو الأغلبُ.
4) جملة مثل : دمعز.
ويُمكننا الِاستئناسُ ببعضِ الجهودِ العِلميةِ التي اسْتقرأتِ الطرقَ التي اتبَعَها العربُ في النحتِ فكانتْ على النحوِ الآتي :
1) الأخذ من الكلماتِ جميعا أو من بعْضِها. وعند النحتِ من كلمتين أولهُما ثلاثية تدْخلُ هذه الثلاثية في النحتِ بتمامِها في أغلب الأحيانِ، وتكملُ صيغة فعللَ من الثانيةِ، مثل بَسْمَلَ من بسم الله.
2) يُعتبرُ في النحتِ الأصواتُ الأصْلية، وماعدا ذلك فهو شاذ.
3) لا يُشترط التزامُ الحركاتِ والسَّكناتِ الأصْليةِ : مثل : سَبْحَلَ حيث فتِحَت السينُ بينما هي في الأصل مَضمومة.
4) قد يُصاغ وزن فعْللَ من المقطعِ الأولِ من الكلمةِ.
ولا بأسَ من إيرادِ رأيٍ لأحدِ المُسْتشرقين الروسِ في هذا الباب وهو المُستشرقُ كيفورك ميناجيان في مقالةٍ له في مجلةِ اللسانِ العربيِّ حيث يقولُ : " إنّ توليدَ كلماتٍ جديدةٍ عن طريقِ النحتِ له جذورٌ بعيدة في تاريخ تطورِ البنيانِ المورفولوجي للغةِ العربيةِ الفصْحى، ونحن نقسمُ النحتَ إلى نوعين : تركيب نحتي وتركيب مزجي". ويبدو أنّ هذا التقسيمَ ينطبقُ على المنحوتاتِ الحديثةِ كما يُفهم من أمثلةِ الرجلِ، وكما لحظ هذا بعضُ الباحثين.
وعلى الرُغمِ من الجدلِ الواسعِ حولَ قياسيةِ النحتِ أو عدمها تمشيا مع القاعدةِ التي فرضها اللغويون القدماءُ والتي تقولُ :" القليلُ لا يُقاسُ عليه "، فإنّ بعضَهم كان بعيدَ النظرِ عندما رَوّجَ للنحتِ (على الرغم من قلةِ الأمثلةِ وندرتِها في الموروثِ اللغويّ العربيّ القديمِ – أعني من الجاهلية – ، فهذا ما يقولونه ولا يُمْكنُ لأحدٍ أنْ يَزعُمَ هذا الزعمَ، لأنّ الكلامَ العربيَ لم يُجمعْ كله، ولم يُغربل فيه المنحوتُ منْ غيرِه) إدراكا منه أنّ هذا البابَ في تنميةِ الثروةِ اللفظيةِ العربيةِ بابٌ مهمٌ، ولا يجوزُ إغلاقُه أو تناسيه، لأنّ التطورَ الحَضرِيّ في الحياةِ الإنسانيةِ لا بُدّ أنّه مُحتاجٌ إليه في مُقتبلِ الأيامِ. وها هي النبوءة تصْدقُ وتتحققُ لأنّ الحاجة الآن إلى النحتِ تكاد تصبحُ ضرورة لغوية في هذا العصرِ الذي نحياه.
وهكذا يتضحُ لنا تماما أنّ هذا البابَ في تنميةِ الثروةِ اللفظيةِ العَربيةِ بابٌ عظيمُ الفائدةِ، بدأ به الأجدادُ بألفاظٍ قليلةٍ – هذا ما يُقال – وتُرِك البابُ مفتوحا للاحقين لكيْ يُفيدوا منه عند حاجتِهم إليه. ولقد أفادَ منه المُسلمون عندما احْتكوا بأممٍ كثيرةٍ في العُصورِ الإسلاميّةِ المُتتابعةِ، ونحن اليومَ بإمكانِنا أنْ نفيدَ منه في هذا المَعْمعانِ الحضاريِّ الذي نعيشُه اليومَ بفضلِ التطورِ الهائلِ في عالمِ الاتصالاتِ حتى أصبحَ العالمُ اليومَ – كما يُعبرُ بعضُ الناسِ – قرية عالمية مُترامية الأطرافِ بحجمِ العالمِ كلِه.
وبعدُ، فإنّ ما قاله الدكتورُ صبحي الصالح، حولَ مسألةِ النحتِ، فيه فصلُ الخِطاب، إذ قالَ :" ... فما اللغة إلا أداة مَرِنة مِطواع للتعبيرِ عن حاجاتِ الأفرادِ والجماعاتِ. وإنْ لمْ يجدِ اللغويون القدامى دافعا لترجمةِ المُصطلحاتِ نحتا واخْتزالا فقدِ اشتدتْ بنا الحاجَة إلى مِثلِ هذه الترجمةِ بأقصرِ عبارةٍ ممكنةٍ، بعدَ أنِ اتسَعَتْ آفاقُ البحْثِ العِلمِيِّ والفنيِّ بما لمْ يحْلمُ به أسْلافُنا منْ قبْلُ. ولسْنا نرْتابُ في أنّ الاشتقاقَ هو أهمُّ الوسائلِ " لتكوينِ كلماتٍ جديدةٍ بقصدِ الدلالةِ على معانٍ جديدةٍ"، فلا يَكونُ استعمالنا للنحْتِ إلا وسيلة إضافية مُتمّمَة للاشتقاقِ القِياسِيِّ القديمِ. غير أنّ النحت " يَحتاجُ إلى ذوقٍ سليمٍ خاصة، فكثيرا ما تكونُ ترجمة الكلمةِ الأعجميةِ بكلمتين عربيتين أصلحَ وأدلَ على المَعْنى من نحتِ كلمةٍ عربيةٍ واحدةٍ يَمُجُّها الذوقُ ويَسْتغلقُ فيها المَعنى " كما يقولُ الأميرُ مصطفى الشهابي في مُحاضراتِه حولَ المُصْطلحاتِ العلميةِ في اللغةِ العربيةِ.
وهكذا، فإن هذه المقالة تُقدمُ لأولئك المُتسرعين الذين يَرْمون العربية بالعُقمِ والعَجْزِ، ويصفونها بالتخلفِ، دليلا جديدا يتضحُ به أنّ لدى العربيةِ كنزا لا تنقضي عجائبُه في إثراء الكلمِ العربيِّ، وتنويعِه، وتطويعِه للحاجةِ العلميةِ أو الفنيةِ. فهذه الآلة الجَديدة معَ الآلةَ السابقةِ، أي الاشتقاقُ، تروي عطشَ مُحبي العربيةِ لمواكبةِ الظروفِ المستجدةِ في أيِّ عصرٍ. والمسألة ليستْ ترفا أو زَخرفة ولكنها حاجة الإنسانِ للوفاءِ بمتطلباتِ حياته المتجددةِ باستمرارٍ، سواءٌ أكان هذا على مُستوى اختراع الجديدِ الذي لا بُد أن يَحْدث في الحياةِ الإنسانيةِ أم كان على مُستوى الاقتراضِ من الأممِ الأخرى التي تحتكُ بها الأمّة ليحصلَ الأخذ والعطاءُ، وعندئذ تبرز الحاجة ماسّة إلى صناعةِ اللفظِ الذي يُلبي حاجة التواصلِ اللغويِّ. والعُتْبى لا يمكنُ أنْ تنصبَ على اللغةِ، كما يفعل بعض الناس، لأنها عنصرٌ علميٌ مستقلٌ وظاهرة اجتماعية، ولكنها تنصَبُ على مَنْ يحتضنُ اللغة ثمَّ ينامُ، ولا يعملُ العملَ الدؤوبَ لجَعْلِها حيّة ومُلبية لحاجاتِ الحضارةِ والتقدمِ والتعبيرِ الفنيِّ الدقيقِ، وفي هذا فليتنافس المتنافسون، وسيجدون العربية مَرِنة طيِّعة لتحقيقِ طموحِهمْ.
|
|
|
|
|