|
|
سر النبوغ في الأدب - 4
د. محمد سعيد حسب النبي
يشير الرافعي إلى أن العجب في تتبع فلسفة هذه اللغة العربية العجيبة، أننا نرى أكثر ألفاظها كالتامة لا ينقصها شيء من دقائق المعنى في أصل وضعها، على حين لا يفهم علماؤهها من هذه الألفاظ إلا بعض ما تدل عليه، كأنها منزلة تنزيلاً ممن يعلم السر، وقد نبه الرافعي إلى هذا في كتابه "تاريخ آداب العرب" وأفاض فيه واستوفى من فلسفته، وجاء القرآن الكريم من هذه بالعجائب التي تفوت العقل، حتى إن أكثر ألفاظه لتكاد تكون مختومة نزلت كذلك لتفض العلوم والفلسفة خواتمها في عصور آتية لا ريب فيها.
وكلمة التوليد التي لم يفهم منها العلماء إلا أخْذ معنى من معنى غيره بطريقة من طرق الأخذ التي أشاروا إليها في كتب الأدب-هي الكلمة التي لا يخرج عنها شيء من أسرار النبوغ ولا تجد ما يسد في ذلك مسدها أو يحيط إحاطتها، ولا نظن في لغة من اللغات ما يشبهها في هذه الدلالة واستيعابها كل أسرار المعنى، إذ هي بلفظها نصٌّ على حياة الكون في الذهن الإنساني، وأنه يتخذه وسيلة لإبداع معانيه، كما يتخذ سر الحياة بطن الأم وسيلة لإبداع موجوداته، وأن المعاني تتلاقح فيلد بعضها بعضاً في أسلوب من الحياة، وأن هذه هي وحدها الطريقة لتطور الفكر وإخراج سلالات من المعاني بعضها أجمل من بعض، كما يكون مثل ذلك في النسل بوسائل التلقيح من الدماء المختلفة، وأن النبوغ ليس شيئاً إلا التركيب العصبي الخاص في الذهن، ثم نمو هذا التركيب مع الحياة في طريقة سواء هي وطريقة الولادة المُحيية التي مرجعها كذلك إلى تركيب خاص في أحشاء الأنثى، ينمو، ثم يدرك ثم يعمل عمله المعجز، وإذا كان من كل شيء في الطبيعة زوجان، فالكلمة نصٌ على أن أذهان النوابغ أذهان مؤنثة في طباعها التي بنيت عليها، وهذا صحيح، إذ هي أقوى الأذهان على الأرض في الحس بالآلام والمسرات، ومعاني الدموع والابتسام أسرع إليها من غيرها، بل هي طبيعة فيها، وهي وحدها المبدعة للجمال والمنشئة للذوق، وعملها في ذلك قانون وجودها، ثم هي قائمة على الاحتمال والإعطاء والرضا بالحرمان في سبيل ذلك وإدمان الصبر على التعب والدقة والاهتمام بالتفاصيل وأساسها الحب، وكل ذلك من طباع الأنثى وهي النابغة فيه، بل هي النابغة به.
فسر النبوغ في الأدب وفي غيره هو التوليد، وسر التوليد في نضج الذهن المهيأ بأدواته العصبية، المتجه إلى المجهول ومعانيه كما تتجه كل آلات المرصد الفلكي إلى السماء وأجرامها، وبذلك العنصر الذهني يزيد النابغة على غيره، كما يزيد الماس على الزجاج، والجوهر على الحجر، والفولاذ على الحديد، والذهب على النحاس، فهذه كلها نبغت نبوغها بالتوليد في سر تركيبها، ويتفاوت النوابغ أنفسهم في قوة هذه الملكة، فبعضهم فيها أكمل من بعض، وتمد لهم في الخلاف أحوال أزمانهم ومعايشهم وحوادثهم ونحوها، وبهذه المباينة تجتمع لكل منهم شخصية وتتسق له طريقة، وبذلك تتنوع الأساليب، ويعاد الكلام غير ما كان في نفسه، وتتجدد الدنيا بمعانيها في ذهن كل أديب يفهم الدنيا وتتخذ الأشياء الجارية في العادة غرابة ليست في العادة ويرجع الحقيقي أكثر من حقيقته.
وقد سئل مصور مبدع بماذا يمزج ألوانه فتأتي ولها إشراقها وجمالها ونبوغ مبانيها وزهو الحياة بها في الصورة، فقال: إنما أمزجها بمخي. وهذا هذا، فإن الألوان عند الناس جميعاً، ولكن مخه عنده وحده وله تركيبه الخاص به وحده وسر الصناعة في توليد هذا الدماغ فكأن ألوانه في صناعته جاءت منه بخصوصه، وكذلك كل ما يتناوله العبقري فإنك لتجد الشعر في وزن خاص به يدل عليه ويتمم الغرض منه ويضيف إلى معانيه أنقاً من الجمال وحسنه وإلى صوته نغماً من الموسيقى وطربها. فما أشبه الجهاز العصبي في دماغ كل نابغة أن يكون وزناً شعرياً لهذا النابغة بخاصته. ألا ترى أنك لا تقرأ الأديب الحق إلا وجدت كل ما يكتبه يجيء في وزن خاص به حتى لا يخرج عنه مرة، أو تزيد فيه وتنقص إلا ظهر لك أنه مكسور..؟
والذهن العبقري كما يرى الرافعي لا يتخذ المعاني موضوع بحث ونظر وتعقب يستخرج منها أو يتعلق عليها فهذا عمل الذهن الذكي وحده وهو غاية الغايات فيه يبحث وينظر ويتصفح ويجمع من هنا ويأخذ من ثم ويعترض ويصحح ويأتيك بالمقالة يحسب فيها كل شيء وما فيها إلا أشياؤه هو وأمثاله. أما الذهن العبقري فليس له من المعاني إلا مادة عمل فلا تكاد تلابسه حتى تتحول فيه وتنمو وتتنوع وتتساقط له أشكالاً وصوراً في مثل خطرات البرق، وربما غمر بالمعنى الواحد في جماله وسموه وقوة تأثيره مقالات عدة لأولئك الأذكياء فنسخها نسخاً وجعلها منه كالشموع الموقدة إزاء الشمس. فإذا ذهبتَ توازن بين مثل هذا المعنى ومثل هذه المقالات في الروعة والجلال ورأيت عربدة المقالة وغرورها لم تستطع إلا أن تقول لها: يا حصاة الميزان في إحدى كفتيه ألا يكفيك الجبل في الكفة الأخرى..؟
وقد عرف الأدباء جميعاً أن كاتب فرنسا العظيم فرانس كان يكتب الجملة، ثم ينقحها، ثم يهذبها، ثم يعيدها، ثم يرجع فيها، هكذا خمس مرات إلى ثمان ويقدم ويؤخر من موضع إلى موضع ويحتسبون هذا تحكيكاً وتهذيباً، وما هو منها في شيء، ولا يحسب الرافعي الأوروبيين أنفسهم تنبهوا إلى سر هذه الطريقة، وإنما سرها من جهاز التوليد في رأس ذلك الكاتب العظيم فإذا قرأ كتابة حوَّلها فكرة وأبدع له منها من غير أن يعمل في ذلك أو يتكلف له إلا ما يتكلف من يهز إليه بجزع الشجرة لتساقط عليه ثمراً ناضجاً حلواً جنياً. فكلما قرأ ولَّد ذهنه فيثبت ما يأتيه فلا تزال صورة تخرج من صورة حتى يجيء المعنى في النهاية وإنه لأغرب الغرائب لا يكاد العقل يهتدي إلى طريقته وسياق الفكر فيه إذ كان لم يأت إلا محولاً عن وجهه مرات لا مرة واحدة.
فجهاز التوليد متى استمر واستحكم في إنسان أصبح له بمقام ملك الوحي من النبي وهو عندنا دليل من أقوى الأدلة على صحة النبوة وحدوث الوحي وإمكانه إذ لا تتصرف به إلا قوة غيبية لا عمل للإنسان فيها، بل هي تبدع إبداعها وتلقى عليه إلقاءً. وليس كل من تعرض لها أدرك منه، ولا كل من أدرك منها بلغ بها، بل لابد لها من الجهاز العصبي المحكم كجهاز اللاسلكي الدقيق المصنوع لتلقي أبعد الأمواج الكهربائية وأقواها. وهذه القوة إن أرادت معاني الجمال أخرجت الشاعر، وإن أرادت كشف السر عن الأشياء أخرجت الأديب، وإن أرادت حقائق الوجود أخرجت الحكيم.
فإن كان الآمر أكبر من هذا كله وكان أمر تغيير الحياة وصب أزمان جديدة للإنسانية والوثوب بهذه الدنيا درجة أو درجات في الرقي –فهنا تكون الوسيلة أكبر من البصيرة، فليس لها من قوة الغيب إلا الوحي، ويكون الغرض أكبر من الشاعر والأديب والحكيم، فلا يختار إلا النبي، ثم لا يوحى إليه إلا وهو في حسٍ لساعة الوحي وحدها، وهي ساعة ليست من الزمن بل من الروح المنصرف عن الزمن، وما فيه ليتلقى عن روح الخلد، وقريب من ذلك خلوة النابغة بنفسه في ساعة التوليد، فسر النبوغ من سر الوحي، لا ريب في ذلك، وما أسهل سر الوحي وأيسره أمره، ولكن في الأنبياء وحدهم، وهنا كل الصعوبة.. "أن نكون أو لا نكون، هذه هي المسألة"...
|
|
|
|
|