|
|
صناعة الإنشاء لابن المعتمر
د. محمد سعيد حسب النبي
يعد بشر بن المعتمر من علماء الكلام ورئيس فرقة من المعتزلة تسمى باسمه، وكان خطيباً مفوهاً وعالماً جليلاً، كتب يوماً عن صناعة الإنشاء فقال ناصحاً: "خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك؛ فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهراً وأشرف حسباً، وأحسن في الأسماع وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وغرة من لفظ شريف ومعنى بديع. واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة وبالتكلف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولاً قصداً، وخفيفاً على اللسان سهلاً، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه.
وإياك والتوغر فإن التوغر يُسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك، ومن أراغ معنى كريماً فليلتمس له لفظاً كريماً فإن حق المعنى الشريف؛ اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالاً منك قبل أن تلتمس إظهارهما وترتهن نفسك بملابستهما وضاء حقهما. وكن في إحدى ثلاث منازل، أولاها أن يكون لفظك رشيقاً عذباً وفخماً سهلاً ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً وقريباً معروفاً إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك ولطف مداخلك واقتدارك على نفسك أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء ولا تجفو عن الأكفاء فأنت البليغ التام،
فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك ولا تسنح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك وتجد اللفظة لم توقع موقعها ولم تصر إلى قرارها من أماكنها المقسومة لها والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها ولم تتصل بشكلها وكانت قلقة في مكانها نافرة في موضعها فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها فإنك إذا لم تتعاط قريض الشعر الموزون ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بترك ذلك أحد، وإن أنت تكلفتها ولم تكن حاذقاً مطبوعاً ولا محكِماً لسانك بصيراً بما عليك وما لك عابك من أنت أقل عيباً منه ورأى من هو دونك أنه فوقك.
فإن ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصنعة ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة وتعصَّى عليك البيان بعد إجالة الفكرة فلا تعجل ولا تضجر ودعه بياض يومك أو سواد ليلك وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن كانت هنالك طبيعة أو كنت جريت من الصناعة على عرق، فإن تمنع عليك الأمر بعد ذلك فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك وأخفها عليك لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة كما تجود به مع المحبة والشهوة.
|
|
|
|
|