|
|
حقيقة الشعر للأمير شكيب أرسلان
د. محمد سعيد حسب النبي
هو شاعر من عيون شعراء العصر الحديث، وكاتب من أقدر كتابه على البيان الفصيح واللفظ الجزل، ويمتاز في الصناعتين بسرعة البديهة والذهاب مذهب الطريقة البدوية في الأسلوب، وهو أحد علماء الأدب الذين لا ينطقون إلا عن علم راسخ وأدب مكين. كتب يوماً عن الشعر وحقيقته فأشار إلى أن الشعر قول ثقيل وعبء عقلي باهظ لا يستقل به سوى الخناذيذ القرح، والمغاوير السُّبق، ولا يجيده إلا الناخعون الكُّمل أولو القوة الباهرة، والمنة الوثيقة، والسليقة الفائقة والطبيعة الصافية التي لا تتاح إلا للآحاد، ولا يؤتاها إلا الأفراد، يكاد قاتله يتجرد من عالم المادة بقوة نفسه، وشفوف حسه، ويلحق بالملأ النوراني في مضاء عزمه، وورْي زنده، وسرعة فكره، ولو كانت الكهربائية شخصاً لكانت هي الشاعر.
وحسبك أن الأولين الذين لهم الأولية في البيان كما في الزمان كانوا يحسبون الشعر قوة من وراء الطبيعة وربما جعلوا له شياطين وكان الشعر في الجاهلية دولة ومُلكاً وإذا أجاده واحد تهيبوه تهيب الأمراء، وأجلوه إجلاء الرؤساء. وإذا تذبذبوا في الإيمان برسول بهرتهم آياته وأفحمتهم معجزاته، وأحالوا إعجازه على الشعر كأنه الدرجة الثانية التي يمكن أن تنزل عنها الآيات من عتبة الوحي. نعم إن الشعر قوة روحية يفيضها الله على من يشاء من عباده، فتُحلّق بالشاعر تحليق الأجنحة بالطائر، وتطوف به في سبع سموات الخيال فيرى الطبيعة في أفحم مشاهدها، وأشمخ شرفاتها، وأبهى مجاليها، وأشجى أصواتها، وأذكى أعرافها. وينفث ما شاهده من هذه المرائي المجسمة في قوالب من النطق فتق الله بها لسانه الهائل فجاءت شبيهة بموضوعها وتحدر به تحدر السيل في صبب، وهتف المقام بالمقيم وطلب العلو بعضه بعضاً، وتجاذبت البدائع وصدقت نسبة الروائع ففصل الكلام عما شئت من فكر سام ومقام شريف وما أردت من معنى بكر ولفظ فحل لذلك قيل أن الشعر هو لغة تامة.
وإذا تغلغل الشاعر في أنحاء النفس، وأحناء القلب وهام في أودية الانفعال وأخذ يؤدي من هناك ما يلقيه إليه مضاعفاً هوىً ملحٌ وشوق هاف وحب شاغف وتمن واصب وتوسل هالع ورغبة ورهبة وإيمان كإيمان العجائز، ثم آب من أودية إحساساته وأعطاف فراساته مفضياً بذلك إلى سامعيه أشجى وأصبى، وأرقص وأبكى وأحرق وروّى ونضر وأذوى وأيأس وأرجى وأفقر وأغنى، وأسعد وأشقى، وبلغ في كل مقام الغاية القصوى، وجذب بأفنان سدرة المنتهى.
فالشعر إذن مظهر المرء في أسمى خواطر فكره وأقصى عواطف قلبه، وأبعد مرامي إدراكه. والشعر هو رؤية الإنسان الطبيعة بمرآة طبعه، فهو شعور عام وحس مستغرق يأخذ المرء بكليته ويتناوله بجميع خصائصه حتى يروح نشوان خمرته أسير رايته ويريه الأشياء أضعافاً مضاعفة، ويصورها بألوان ساطعة وحلي مؤثرة تفوق الحقائق وربما أزرت بها وصرفت النفس عن النظر إليها فهو أحياناً أحسن من الحسن وأجمل من الجمال وأشجع من الشجاعة وأعف من العفاف. وإن الظبي في قصيدة غير الظبي في فلاة، بل غير الظبي في مُلاة، وإن الأسد في منظومة غير الأسد في مفازة، وذلك حيث كان الشعر كلاماً يلقى بلسان الإحساس ونطقاً ينزل عن وحي المخيلة وأوصافاً يفضي بها الشوق، وإنما كانت المبالغة زيادة على الحقيقة لتمكين السامع من الوصول إلى مقدار الحق والحرص على أن لا ينقطع منه قسم على طريق الإلقاء وفي أثناء الانتقال؛ فكأن هذه الزيادة جعلت لتملأ الفراغ الواقع بين المدرِك والمدرَك، حتى لا يصل إلى الذهن إلا كاملاً بكل قوته ولا يحل في العقل إلا بجميع حاشيته.
وللشعر سعة المذهب والتفنن في شعوب القول بحسب ما تقتضيه المطالب فهو ملك الكلام يتصرف فيه كيف يشاء، فيه تجسيم المجرد وتجريد المجسم وتشبيه المجردات بالمحسوسات وتلطيف المحسوسات إلى درجة المجردات؛ فتارة يجسم المجرد حتى يكاد يُحس ويُمس وتقع عليه الأيدي وتنعكس أشعة نوره على العين وتهتز دقائقه فتهز بالهواء طبلة الأذن وطوراً يهفهف به الملموس ويهلهل المحسوس حتى يشف شفوف البلور، ويسطع من ورائه النور؛ فإذا شاء هلهل، وإذا شاء أجزل، وإذا شاء أذاب، وإذا شاء أجمد وكأنه كيمياء الكلام يركب من أجزائه ما يريد ليبرم الصورة التي يرسمها الخيال.
وعليه، فمهما يكن من ذلاقة المنطق وقوة التأدية وعلو اللسان المترجم به ذلك الشعور السامي فأنى للكلام أن يحيط بهاتيك الانفعالات وأنى للشاعر أن يتغنى لسانه بكل ما يتغنى به جنانه وأين الثريا من يد المتناول، فإن اللغة رموز محدودة وإشارات مخصوصة وهي تطمع أن تعبر عما في النفس البشرية، والنفس البشرية عالم بنفسه لا تدرك له البصيرة أفقاً، وبحراً لا تعرف قراراً، ولذلك كان أشعر الناس أمكنهم من هاتيك الخيالات وتلك العواطف أن يزفها في أبهج حلاها وأسطع ألوانها، وهذا هو أتم الناس لغة.
فكيف لا يكون بعد ذلك الشعراء أمراء الكلام وملوك الألسنة ولا يكون لهم التصرف باللغات واليد العليا في النزع والإثبات. والشعر يبقى بقاء الشمس ويسير مسير الأرض وقد رواه الخلف عن السلف وتدارسه الناس منذ أيام العرب البائدة وحفظوا شعر جديس وعاد. وقد محيت رسوم إرم ذات العماد وكان من آل امرئ القيس ثلاثون ملكاً بادوا وباد ذكرهم وبقي ذكره وحده بما أمسكه من شعره ومكنه من قوله السائر في الأعقاب المتسلسل في الأيام تسلسل النطف في الأصلاب. وأي رجل من اليونان بقي ذكره بقاء ذكر هوميروس مع كون بعضهم شك في مجرد وجوده، بل أي صغير من صغار العرب لا يسمع بذكر المتنبي ولا يحل اسمه في أوائل الأسماء التي تطرق ذاكرته ويتعلمها منذ طفوليته وقد لا تعرض له أسماء أشهر الملوك إلى زمن كهولته.
نعم إن الشعراء هم سدنة هياكل البيان وبهم تحفظ اللغة ومنهم يعرف تاريخ العقل البشري وعليهم معول القلوب إذا أصدأتها الكروب، وأن أبقى آثار الآدميين هو القول وأبقى أصناف القول هو الشعر لأن النثر كما يقال يتناثر تناثر الشرر. والنظم يرسخ رسوخ النقش في الحجر. بل قد تمحى النقوش من صفحات الحجر ولا تمحى الأشعار من رؤوس البشر.
|
|
|
|
|