|
|
ماهية اللغة - 1
د. محمد سعيد حسب النبي
جاء في كتاب مختارات المنفلوطي استعراض لماهية اللغة للأديب أحمد فتحي زغلول، وهو نابغة الأمة العربية علماً وفضلاً كما يرى المنفلوطي، ونادرتها ذكاء وفهماً، وأقدر كتابها على الترجمة الصحيحة الفصيحة التي لا يضيع فيها معنى، ولا يضطرب فيها لفظ، وما انتفعت هذه الأمة في عصرها الحاضر –عصر المنفلوطي- بعلم أحد من علمائها انتفاعها بمؤلفاته ومترجماته، ويمتاز في كتابته بالبيان والإيضاح والدقة في وضع الألفاظ بإزاء معانيها، فلا يتجوز إلا قليلاً ولا يتخيل إلا نادراً، ولا يغرب ولا يتندر بحال من الأحوال.
يقول أحمد فتحي زغلول عن الفكر أنه حركة نفسية يحتاج في ظهوره إلى معونة الجهاز المخصوص الذي يكون به الكلام، وعليه فالكلام هو حركة ذلك الجهاز المنبعثة عن مجرد الطبع أو المدفوعة بالإرادة للتعبير عن حركة من حركات النفس. ينتج من هذا أن الكلام يتنوع باختلاف الشارات التي تدل على الأفكار، وأن تلك الشارات تنقسم إلى قسمين: طبيعية وصناعية. فالأولى: هي التي تصدر عن الذات من حيث هي أي بمقتضى وجودها المادي، وكل شارات هذا القسم عرضية مثل شارات اليد والرأس والعين وبقية الأعضاء، ومثل الأصوات التي ليست ألفاظاً والكلام أي المنطق.
والثانية: خارجة عن الذات، وهي تحدث من تأثير الإنسان في الماديات الخارجة عنه، وكل شارات هذا القسم جوهرية، بمعنى أن لها دواماً طويلاً كان أو قصيراً كالأعلام والنقش والرسم والحفر والكتابة.
ومما تقدم يتبين أن الكلام الطبيعي عام لكونه مفهوماً بذاته من جميع الناس ومن الحيوان أحياناً كما هو الحال بالنظر لشارات الأعضاء وأصوات الغضب أو الاستحسان من غير أن يكون هناك اتفاق سابق على مفهوم تلك الإشارات. وعلى خلاف ذلك الكلام الصناعي أو الاتفاقي لأنه عبارة عن مجموع الألفاظ المخصوصة الموضوعة للمعاني المخصوصة، وعن التراكيب أو الصيغ الناتجة من تأليف هذه الألفاظ لتُوصّل إلى الذهن بواسطة الأذن أو العين معاني مخصوصة متفقاً عليها.
وقد يتأتى أن يكون الكلام الصناعي عاماً أي أن كل الناس يدركون المراد منه كالرسم مثلاً، وعلى هذا يتضح خطأ تعريفهم اللغة بأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم.
والصحيح أن اللغة هي مجموع العادات المخصوصة التي تجري عليها كل أمة في التعبير عن أغراضها بواسطة الكلام أو الكتابة وقد تقدم بيان معنى الكلام.
ولا يصح إطلاق اسم اللغة على ذلك المجموع إلا إذا كانت النسبة تامة بين اللفظ ومدلولة لأن قوة اللغة متوقفة على شدة المطابقة بحيث إن الأذن أو العين ترسم في ذهن السامع أو القارئ صورة المدلول كما هي ولا يتم ذلك إلا باجتماع شروط ثلاثة:
الشرط الأول: أن يكون لكل مدلول علامة خاصة به تدل عليه دائماً ولا تدل على غيره أبداً.
الشرط الثاني: أن تكون هذه العلامة قابلة للتغيير بتغير المدلول وتبعاً له.
الشرط الثالث: أنها تكون قابلة للاشتقاق كمدلولها، فإذا اشتق منها مدلول اشتق منها علامة دالة عليه بالشروط عينها.
وبناء على ما تقدم تكون شروط اللغة الحقيقية بهذا الاسم ثلاثة أيضاً.
الأول: أن يكون تعبيرها محكماً وذلك عبارة عن تمام المطابقة بين الدال والمدلول، ولا سبيل إلى هذا إلا إذا سهل استعمال اللفظ بقدر المعنى ولم يزد المعنى عن اللفظ المستعمل لأجله، وهذا الشرط صعب التوفر فما وقفت لغة حتى الآن لنيل هذه المزية اللهم إلا لغة علماء الرياضة بل إن اللغات الأخرى لن تنالها أبداً.
الثاني: الملابسة وهي الخاصة الموجودة في الألفاظ أو التراكيب أي الصيغ تلك الخاصة التي يدرك بها الفاهم نظائر المدلول ونقائضه والملابسة تقتضي تحليل الفكر الإنساني، وذلك غير ميسور عادة في اللغات الأصيلة إلا نادراً.
الثالث: الوضوح التام وهو يرجع للشرطين السابقين ولصناعة ترتيب الألفاظ وتركيب الجمل ترتيباً وتركيباً ينتفي معها الإبهام ويرتفع الشك والالتباس.
|
|
|
|
|