ماهية اللغة - 3
د. محمد سعيد حسب النبي
يستكمل الأديب أحمد فتحي زغلول رؤيته حول ماهية اللغة فيقول: "نحن إما عرب أو مستعربون، وإما أجانب عن لغة العرب أو مولدون، فإن كنا الأولين فلنا حقنا في التصرف بلغتنا كما تقتضيه مصلحتنا، وإن كنا مستعربين فبحكم قيامنا مقام أصحاب هذه اللغة وبكوننا ورثنا عنهم بعد أنا بادوا فليس مَن له أن ينازعنا في استعمال ما كان مباحاً لآبائنا من قبلنا، وإن كنا أجانب أو مولدين فمن له أن يسيطر علينا ويحرمنا ثمرة الكد في حفظ هذه اللغة وتفضيلها على غيرها من سائر اللغات فيلزمنا بالبقاء على القديم ويحكم علينا بالجمود واعتقال اللسان.
أخذ العرب العلوم عن أهلها ونقلوها إلى لغتهم، فلما وجدوا منها استعصاءً في بعض المواضع ذللوها وأخضعوا الغريب عنها لأحكامها فأيسرت ودرجت بعد الجمود، فكانت لهم نعم النصير على إدراك ما طلبوا من نور وعرفان. ويضيف أحمد فتحي زغلول، ونسينا نحن أن زماننا غير زمانهم فكانوا أصحاب حول وطول وذوي مجد وسلطان ونحن على ما نعلم من الضعف والانزواء، على أنهم في عزهم وبعد فخارهم وتمكنهم من أنفسهم لم يعتزوا بلغتهم فنفروا من العجمة لأنها عجمة بل استخدموها حيث وجب الأخذ بها تمكيناً للغتهم، وحذراً من أن يصيبها الوهن إذا قعدوا بها عن مجاراة تيار التقدم وهم أولو الرأي فيه وخوفاً من أن يعيقهم الجمود فيها عن حفظ مركزهم العظيم بين الأمم التي كانت تعاصرهم.
ويتساءل أحمد فتحي زغلول قائلاً: أيجوز لنا أن نتخلف عن السير في طريقهم والاسترشاد بهديهم والعمل بطريقتهم بحجة أنهم انقرضوا وبادوا فلا حق لنا في متابعة الرقي ولا يجوز أن نخطو بعدهم خطوة إلى الأمام لكن من الذي استأجرنا حراساً من الخرس على هذه الوديعة وبأي قوة أخضعنا على الوقوف هذا الموقف؛ موقف الاستكانة وقطع الرجاء وفقدان الهمة وانحلال العزائم، أنقصٌ في الأفهام أم قصر في الأجسام أم جهل بأنا من البشر لنا كل حقوق الإنسان.
ليس لنا أن نتمسك بالقديم لقدمه وإن أصبح عديم الجدوى، وإلا فالأولى بنا أن نعكف عن الدرس والمطالعة وأن نكتفي من كل شيء بما ورثنا عن الآباء لنعيش كما عاش الأولون. ويرجو الكاتب أن نتعلم الصبر في هذا السياق فيقول: لا تجزعوا إذا أصابتكم مصائب التقدم فتُركتم آخر القوم، ولا تجزعوا إذا هصرتكم عوامل الرقي فمُنيتم بمن يقف متفرجاً عليكم وأنتم كالصور المتحركة الناطقة لكنها لا تتحرك بحركة هي عبارة عن اهتزاز الشيء مكانه وتنطق بلغة دائرة قد خلت من العلم الذي أصبح دارجاً على ألسنة المتفرجين.
خاف خصوم مذهبنا –كما يقول أحمد فتحي زغلول- على اللغة العربية وحسبوها طعاماً سهل التناول والهضم في مِعَد اللغات الأعجمية فاستجاروا من التعريب وصاحوا إننا لا نطيق اسماً أعجمياً يدخل عليها، أليست هي تلك اللغة الحافلة بالألفاظ والتراكيب العالية والقول الفصيح المصونة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي لم تتأثر ببعض كلمات تدخل عليها في كل عام بل إن هذا العمل مما يؤيدها ويشد أزرها ويرفع مقامها بين اللغات فلا يطمع الأعاجم في اعتبارها من اللغات الميتة. قالوا ذلك يفسد علينا لغة القرآن ولا خوف على القرآن ما دام في الوجود مسلم، ألا ترون أن القرآن محفوظ مصون عند من لم يعرف العربية من المسلمين. ويدلل أحمد فتحي زغلول على ذلك فيقول: إليكم الترك والهند والصين والقوقاز وروسيا، تلك أمم تعد خلقاً كثيراً من المسملين لا يعرف الواحد منهم غير لغة أمته وهو مع ذلك يحرص على القرآن أشد من حرص الجبان على دمه، أيعجزكم أن تحافظوا على القرآن بيمينكم وتفسحوا المجال في لغتكم للتقدم باليسار لتنالوا السعادتين وتكونوا من الناجحين في الدارين.
قالوا العلم نافع، قالوا كثير منه مخالف للدين، قالو الحضارة تهددنا فلنتقيها، قالوا هي تخالف الدين، قالوا حدثت مستحدثات فسموها، قالوا حرام عليكم إن كنتم فاعلين. من جراء هذا قال الفرنج عنا: "إنا قوم جامدون، وما جمودنا إلا من الدين" فصحنا مع هذا وقلنا لهم بل أنتم قوم ظالمون، ما لنا وللدين نجره في كل أمر ونقيمه حاجزاً في وجه كل باحث حتى في الأمور التي يأمر هو بتناولها. يأمرنا الدين بتعلم ما خلق الله وأن نسير على على سنة التقدم التي سنها للبشر ونحن كل يوم في إحجام بدعوى يعلم الله مقدار بعدها عن الحق والصواب.
ويختم أحمد فتحي زغلول قائلاً: عليكم بالتقدم فادخلوا أبوابه المفتحة أمامكم ولا تتأخروا فلستم وحدكم في هذا الوجود ولا تقدم لكم إلا بلغتكم فاعتنوا بها وأصلحوها وهيئوها لتكون آلة صالحة فيما تبتغون، لكن لا تكثروا من الاشتقاق الخارج عن حد القياس المعقول، ولا تشوهوا صورتها الجميلة بتعدد الاشتراك أو التجوز، ثم لا تقفوا بها موقف الجمود والعجمة تهددها على ألسنة العامة وهي لا تلبث أن تدخل على لغة الخاصة، أقيموا في وجه هذا السيل الجارف سداً من الاشتقاق المعقول والترجمة الصحيحة والتعريب عند الضرورة لتكونوا من الناجحين.
|