البيان - 1
د. محمد سعيد حسب النبي
أشار المنفلوطي في كتابه المختارات إلى شكوى أحد الوزراء الأذكياء أنه تأتيه أحياناً رقاع الاستعطاف، فيكاد يهملها لما تشتمل عليه من الأساليب المنفرة لولا أن الله تعالى يلهمه نيات كاتبيها وأين يذهبون، ولولا ذلك لكان من الظالمين. ذلك ما يراه القارئ في أكثر المخطوطات التي يخطها كاتبوها في رسائل الصحف ورقاع الشكوى والكتب الخاصة والمؤلفات العامة؛ هزل في موضع الجد، وجد في موضع الهزل، وإسهاب في مكان الإيجاز، وإيجاز في مكان الإسهاب، وجهل بفرق ما بين العتاب والتأنيب، والانتقام والتأديب، والاستعطاف والاستخفاف، وقصور عن إدراك منازل الخطاب ومواقفه بين السوقة والأمراء، والعلماء والجهلاء، حتى إن الكاتب ليقيم في الشوكة يشاكها مناحة لا يقيمها في الفاجعة يفجع بها، ويكتب في الحوادث الصغار ما يكبر أن يكتب مثله في الحوادث الكبار، ويخاطب صديقه بما يخاطب به عدوه، ويناجي أجيره بما يناجي به أميره.
ذهب الناس في معنى البيان مذاهب متفرقة، واختلفوا في شأنه اختلافاً كثيراً، ولا أدري علام يختلفون، وإلى أين يذهبون، وهذا لفظه دال على معناه دلالة واضحة لا تشتبه وجوهها، ولا يتشعب مسالكها.
ليس البيان إلا الإبانة عن المعنى القائم في النفس وتصويره في نظر القارئ أو مسمع السامع تصويراً صحيحاً لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، فإن علقت به آفة من تينك الآفتين فهو العي والحصر. جهل البيان قوم فظنوا أنه الاستكثار من غريب اللغة ونادر الأساليب فأغصُّوا بها صدور كتاباتهم، وحشوها في حلوقها حشواً يقبض أوداجها ويحبس عليها أنفاسها، فإذا قُدّر لك أن تقرأها وكنت ممن وهبهم الله صدراً رحباً، وفؤاداً جلداً، وجناناً يحتمل ما حمل عليه من آفات الدهور ورزاياه؛ قرأت متناً مشوشاً من متون اللغة، أو كتاباً مضطرباً من كتب المترادفات.
وجهله آخرون فظنوا أنه الهذر في القول والتبسط في الحديث واقعاً ذلك من حال الكلام ومقتضاه حيث وقع، فلا يزالون يجترون بالكلمة اجترار الناقة بجرتها، ويتلمظون بها تلمظ الشفاة بريقتها، حتى تسفل وتتبذل وحتى ما تكاد تُسيغها الحلوق ولا تطرف عليها العيون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
ويضيف الكاتب، ولقد يخيل لي أن أكثر الكتاب في هذا العصر يكتبون لأنفسهم أكثر مما يكتبون للناس، وإن كتابتهم أشبه شيء بالأحادث النفسية، التي تتلجلج في نفس الإنسان حينما يخلو بنفسه ويأنس بوحدته، فإني لا أكاد أرى بينهم من يحسن أن يضع فمه على أذن السامع وضعاً محكماً فينفث في روعه ما يريد من خواطر قلبه وهواجس نفسه.
البيان صلة بين متكلم يُفهم وسامع يَفهم، فبمقدار تلك الصلة من القوة والضعف تكون منزلة الكاتب من الرفعة والسقوط، فإن أردت أن تكون كاتباً فاجعل هذه القاعدة في البيان قاعدتك، واحرص الحرص كله على ألا يخدعك عنها خادع فتسقط مع الساقطين.
ويشير الكاتب لأمر مهم للغاية فيقول: ما أصيب البيان العربي بما أصيب به إلا من ناحية الجهل بأساليب اللغة العربية، ولا أدري كيف يستطيع الكاتب أن يكون كاتباً عربياً قبل أن يطلع على أساليب العرب في أوصافهم ونعوتهم ومدحهم وهجوهم، ومحاوراتهم ومساجلاتهم، وقبل أن يعرف كيف كانوا يعاتبون ويؤنبون، ويعظون وينصحون، ويتغزلون وينسبون، ويستعطفون ويسترحمون، وبأي لغة يحاول أن يكتب كتابته إن لم يستمد تلك الروح العربية استمداداً يملأ ما بين جوانحه حتى يتدفق مع المداد من أنبوب يراعه على صفحات قرطاسه.
ويضيف، إني لأقرأ ما كتبه الجاحظ وابن المقفع والصاحب والصابئ والهمذاني والخارزمي وأمثالهم من كتاب العربية الأولى، ثم أقرأ ما خطه هؤلاء الكاتبون في هذه الصحف والأسفار؛ فأشعر بما يشعر به المنتقل دفعة واحدة من غرفة محكمة نوافذها مسبلة ستورها إلى جو يسيل قَراً وصِراً، ويترقرق ثلجاً وبرداً. ذلك لأني أقرأ لغة لا هي بالعربية فأغتبط بها، ولا هي بالعامية فأتفكه بأحماضها ومجونها.
|