اللغة العربية مستهدفة من أهلها
د. محمد بنلحسن
أصبحت اللغة العربية خلال السنين الأخيرة مستهدفة بقوة؛ بسبب حالة الضعف التي هيمنت على المجتمعات العربية أثناء الاحتكاكات غير المتكافئة، بين ثقافتنا العربية التي غدت مهزوزة، وثقافة الآخر الأجنبي التي جعلتها تيار ات العولمة الاقتصادية قوية المفعول، والتي بلغت تأثيراتها العميقة والخطيرة الهوية الثقافية للأمم والشعوب المستضعفة ؛ وفي مقدمة عناصر الهوية، اللغة القومية؛ أي اللغة العربية باعتبارها لغة مشتركة بين الدول العربية ...
إنه ضعف تسلل، وتغلغل، في أعماق الشخصية العربية، لاسيما لدى بعض الفئات المستلبة؛ التي أصبحت ترى في بضاعة الغرب المستوردة؛ خاصة ما تعلق بالتكنولوجيات الحديثة في الإعلام والاتصال، مخلصا لها من وضعية التردي التي لازالت تجثم على عالمنا العربي منذ آماد بعيدة ...هذه التكنولوجيات لابد من أجل إيجاد التواصل بها، وإتقان استعمالها، من التمكن من اللغة الأجنبية، أي اللغة الأنجليزية...
لكن آفة اللغة العربية اليوم، أنها أصبحت مستهدفة بحرب يشنها عليها أبناؤها والمنتسبون إليها؛ سواء بسبب عوامل التاريخ، أو الجغرافيا، أو الدين الإسلامي، أكثر مما يكيده لها الأجانب، والمتحاملون على العرب والمسلمين عموما ...
إن المفارقة الغريبة والعجيبة في الآن نفسه، تتمثل في ازدياد الطلب على تعلم اللغة العربية في الدول الأجنبية والغربية خاصة، وإرسال الطلبة، والراغبين لتعلم اللغة العربية، إلى الجامعات العربية والمؤسسات، والمراكز، التي تعنى بتعليمها للناطقين بغيرها، كما نلاحظ تكاثر القنوات الفضائية الأجنبية التي تبث باللغة العربية. لكننا، إذا ولينا الوجهة شطر أقطارنا العربية، ألفينا كثيرا من الأصوات النشاز؛ التي تدعو إلى إحلال اللغات المحلية العامية، وغير الفصيحة، مكان لغة التدريس الرسمية؛ أي اللغة العربية الفصحى.
ولا يهمنا في هذا المقام إجراء المقارنة بين اللغة العربية الفصحى والعاميات المحلية، سواء من حيث النسق اللساني، أو الرصيد المعجمي، والبنى التركيبية والمعجمية والدلالية ..إلخ فهذا مبحث آخر، أفرد له المختصون، واللسانيون خاصة، كتبا مفصلة، الأهم والمثير في الآن نفسه؛ هو زعم بعض الناس في مجتمعاتنا العربية، بأن أسباب تردي منظوماتنا التعليمة، وترتيبها السيء في العالم، مردها إلى تبني التدريس باللغة العربية عوض استعمال العاميات المحلية في المدارس العمومية التي تلجها أغلبية أفراد الشعب، لاسيما الفئات المنتمية للطبقات الهشة اقتصاديا واجتماعيا ...
وقد تنامت هذه الدعوات بكثرة في بلدين عربيين من شمال إفريقيا، المغرب والجزائر؛ حيث أوصى رئيس إحدى المؤسسات المشتغلة في التربية والتكوين، باعتماد الدارجة العامية في السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية عوض اللغة العربية الفصحى، بحجة أن تعثر المنظومة التعليمية، عائد في نظر صاحب الفكرة إلى اعتماد العربية الفصحى في مناهج التعليم الابتدائي وبرامجه، عوض تبني العامية التي يتواصل الطفل المتعلم بها في محيطه الأسري والاجتماعي ...وقد أثارت هذه الدعوة نقاشات صاخبة بين منظمات المجتمع المدني وصاحب الدعوة، كما أن مفكرين ومثقفين أدلوا برأيهم في هذا الموضوع، وفي طليعتهم المفكر المغربي الأستاذ عبد الله العروي ...
وقد تكرر السيناريو نفسه في الجزائر حين اقترحت وزيرة التربية والتعليم إدخال اللهجة العامية بدل العربية الفصحى في المدرسة الجزائرية، لكنها واجهت حملة مضادة من الرافضين للتفريط في اللغة العربية باعتبارها من المكونات الحاسمة والمصيرية للهوية الوطنية ...
الخطير في هذه التصريحات، لا يتمثل كما سلفت الإشارة، في المفاضلة بين لغتين، أو بين اللغة العربية والعاميات، بل في المقاربة غير الصائبة والتي تحمل اللغة العربية وزر فشل تدبير قطاع التربية والتعليم...وهو فشل مرتبط بالاستراتيجيات والمخططات التي تم انتهاجها في هذا المجال الحيوي...
إن اللغة العربية بريئة من تراجع حصائل التعليم بمؤسساتنا ومدارسنا، والدليل على هذا الأمر، يرجع لعدم انحصار ذلك الفشل في لغة التدريس، أي اللغة العربية، بل لامتداده لباقي مواد التدريس، بما فيها التخصصات العلمية واللغات الأجنبية..
إن العيب لا يكمن في اللغة العربية باعتبارها وسيلة للتواصل البيداغوجي والتربوي في مدارسنا ومؤسساتنا التعليمة، بل يتمثل في تقاعسنا عن تطوير المناهج والبرامج التي تعتمد عليها المنظومة التربوية ببلادنا ...
إن الهجوم على اللغة العربية ليس بريئا، ولا يرتكز على خلفية علمية وأكاديمية ذات مرجعية ومصداقية، بل يتأسس على مواقف ايديولوجية لا تخفي انبهارها الكبير باللغات الاجنبية، لاسيما اللغة الفرنسية بالنسبة لدول شمال إفريقيا ...
إن عزو ضعف حصائل المنظومة التعليمية إلى اللغة العربية حصريا، كشف عن النظرة الناقمة لدى هؤلاء صوب اللغة العربية؛ التي راكمت طوال قرون عديدة، رصيدا هائلا من الثروة اللفظية والمعجمية ...
الغريب في الأمر، أن دعاة التلهيج ، أي اعتماد اللهجات المحلية في التعليم ، لاسيما في السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية، لم يفكروا في مدى كفاية العامية، وكفاءتها؛ لتصبح لغة التدريس في المؤسسات التعليمية ...
إن هؤلاء تصوروا بأن المسألة سهلة وبسيطة؛ للانتقال بالمحتويات التعليمة والمراجع والكتب، من لغة فصيحة تم التقعيد لنحوها، ونسقها اللساني، منذ آماد بعيدة من لدن عشرات، إن لم نقل مئات العلماء والباحثين والمختصين، إلى لغة عامية لم يتم التفكير في نحوها وقواعدها من لدن الخبراء بعلم اللغة واللسانيات ...
إن اختزال الإشكالية التعليمية ومعضلات المنظومة التربوية في قضية لغة التدريس ، التي يجب تغييرها من اللغة العربية إلى العامية ، ليس في الحقيقة محاولة يائسة لتأزيم الوضع اللغوي بمجتمعاتنا العربية، ومدارسنا، والتوجه بأبنائنا وتلامذتنا صوب المجهول ...
إن المسألة اللغوية في المدرسة، يجب أن لا تبحث في معزل عن الإشكالات العميقة الأخرى التي تتهدد مؤسساتنا التربوية، مثل المناهج والمضامين والقيم والوسائل والوسائط ...إلخ ، أما أن يتم اختصار الأزمة في استعمال اللغة العربية، فهذا تجني ليس فقط على اللغة العربية ، بل على مستقبل أجيال من المتعلمين ...
لقد أثبتت اللغة العربية بسبب صمودها الطويل الذي دام قرونا مديدة، أنها مؤهلة لتستمر لغة تدريس وتثقيف وتعليم وتعلم ، ولكن هذه اللغة التي يمتد نفوذها في العاميات المحلية بالدول العربية، وجب على دولنا ومنظماتنا الأهلية الرسمية ، وغير الحكومية، تأهيلها لتواكب عصر المتعلمين، وتبسيطها، وذلك من خلال دعم برامج البحث العلمي التطويري للغة العربية لتيسير نحوها، ونسقها اللساني على المتعلمين الذين ما عادوا مثل أسلافهم، قادرين على استعمال ملكات الحفظ والفهم والاستيعاب لتراث اللغة العربية و دخائرها النحوية والصرفية ...
إن الافتراء على اللغة العربية اليوم في مجتمعاتنا العربية، يتمظهر من خلال تهميش اللغة العربية، وعزلها عن المدرسة والمجتمع؛ من خلال إشاعة اللهجات المحلية، والعاميات غير الفصيحة؛ سواء في الإعلام أم التواصل اليومي، ناهيك عن الاستعمال المكثف للغات الأجنبية، اللغة الفرنسية في المنطقة المغاربية، والانجليزية في المشرق العربي، ثم الزعم في النهاية، بأن هذه اللغة لم تعد مسايرة للعصر وبأنه لا مفر من تعويضها باللهجات المحلية ...
إن التحامل على اللغة العربية، واتهام نسقها ونحوها بالصعوبة ، لا يشكل خطرا داهما على اللغة العربية نفسها، بل يعتبر اندحار لمنظومتنا التعليمية التي تعاني التردي بسبب التخبط في تجريب المناهج المستوردة، والبيداغوجيات الأجنبية ...
يجب إسناد وظيفة تحديد الاختيارات الكبرى لمنظومتنا التعليمية للنخب العالمة في المجتمع، بعيدا عن الانحياز الايديولوجي الأعمى للجنس أو العرق أو القبيلة، ولا يجب أن يغيب عن بالنا، بأن ضعف لغتنا العربية المعتمدة منذ الاستقلال في المدارس والجامعات العربية، لا يعود للغة في حد ذاتها، اللغة وسيلة وأداة ، لا تعقل أو تسمع، حتى نحملها مسؤولية الوضع المزري لأنظمتنا التعليمية، إن المسؤول عن هذا التردي هو الإنسان العربي ، والجهات الوصية عن التعليم والتربية، والتي لم تنجح في رسم مخططات فعالة ،واستراتيجيات ناجعة للنهوض بمنظوماتنا التعليمية ...
إن إهمال اللغة العربية ، وعدم التفكير الجدي والمواكب في أوضاعها بمدارسنا عبر تشجيع البحث التطويري لنحوها وصرفها، للارتقاء بكفاءاتها التواصلية كما يجري في الدول المتقدمة مع اللغات الرائدة عالميا، من شأنه أن لا يقضي على هذه اللغة الجميلة والساحرة فقط، بل وأن يشكل خطرا على أبرز عناصر الوحدة بين الشعوب والمجتمعات العربية ...إن اللغة عنوان الهوية العربية، ومن أقوى أواصر الالتحام والتقارب بين البلدان العربية، وكل تقاعس عن تأهيلها لمواكبة عصرنا الذي يمور بتحولات عميقة؛ حيث تسعى الدول العظمى في بسط هويتها على الكيانات التي ضعفت مناعتها، سيقود لغتنا للانقراض، وأن تصير لغة متحفية من مخلفات الماضي فقط .
|