|
|
أحوال اللغة في الصحافة العربية
غانم أبي عامر
لا يكاد يمر يوم إلا ونقرأ في الصحف عن شكاوى من أجل الدفاع عن العربية، أو ندوات ومؤتمرات تعقد في أرجاء وطن العرب الفسيح هدفها الحفاظ على سلامة اللغة وتطوير أساليب تعليمها. وتلعب الصحافة المكتوبة دوراً مهما في نقل أنباء الجهود الرامية إلى حماية اللغة من التردي، لكن المتابع لأحوال اللغة في هذه الصحافة، لابد له من أن يلمس معاناة العربية من بعض المدافعين عنها.
قبل الدخول في متاهة الرطانات المُعربة الناجمة عن اجتياح الانكليزية الدائم، وهي كلها مضحكة مبكية وحديثها يطول، أود التوقف أمام العنف، غير المسوغ، الذي تمارسه الصحف ضد اللغة، ومن يتابع لغة الصحافة لابد له من ان يرثي لمستقبل العربية خوفاً من حماسة الداعين إلى حمايتها، وتهاونهم مع محرريهم وكتّابهم ممن يستهترون بسلامتها.
إعلان «الخصم»
أكتفي هنا بعرض نماذج قليلة ملتقطة بسرعة من صحف محلية متنوعة، تثير لدى محبي العربية كثيرا من الأسى، وأبدأ بالإعلان الذي تحولت لغته إلى مهزلة فعلية، بصرف النظر عن الهيام بالرطانة الإنكليزية التي تسيء إلى المعلنين أولاً، من ذلك مثلا الاعلانات عن تخفيضات الأسعار لجذب المستهلكين، فهي تستعمل كلها دون استثناء كلمة خصم وتجمعها على خصومات، هذه الصيغة تنم عن نوايا المعلنين المضمرة التي تعتبر الزبون المحتمل «خصماً» ينبغي هزيمته حتماً. ذلك أن الخصم في العربية هو العدو مبدئياً، وحل الخصومات مجاله المحاكم لا المتاجر الكبرى. ولا تسأل الأميين الجدد عن سبب تجاهل مفردات مثل خفض الأسعار أو الحسم، لا الخصم لأنها أصلا تشوه المعنى الذي اقترفه جاهل باللغة وبالإملاء.
أجمل ما قرأت؟
انتقل من الإعلان إلى الأخبار التي يكتبها المحررون، ومن أجمل ما قرأت هذا النبأ: «لبؤة صينية تلد أسداً ونمرين متأسدين» وصورة الخبر إلى جوار هذه السطور.
أقل من ثمانين كلمة فيها هذه الأخطاء الفادحة: وضع كسرتين تحت لبؤة مع انها فاعل، فهي الوالدة.. ثم ان اللبؤة تلد شبلاً لا أسداً مباشرة، قد يصبح أسداً إذا قُيض له البقاء. وترفض العربية كلمة متأسد، والصواب مستأسد، أما زواج البهائم فاسمه التسافد، لأن الزواج لغير البهائم مبدئياً، الأمر الذي يبعث على التفاؤل هو نجاح المحرر في إعلامنا عن أن أحد النمرين المتأسدين قد نفق، ولو أنه انسجم مع قلة فهمه لمفردات اللغة، لكان عليه أن يكتب أنه توفى مأسوفاً على طفولته البريئة.
أعجبني عنوان خبر يقول: برازيلي سيتزوج من ماعزة. وعادت بي الذاكرة إلى المرحلة الابتدائية ودرس الإملاء عن الألف المقصورة الذي علمنا أن نكتب معزى لا ماعزة.
ذئاب وأحمال!
أما هذا العنوان المثير فهو لكاتب يبدو أنه يحمل «دكتوراه» ونصه: ذئاب وأحمال.. الأحمال مفردها حمْل بتسكين الميم، وهو الشيء الذي يُحمل، فالبعير يحمل الهودج، والحاويات المصادرة تحمل الديزل المهرب، ويقال حمل العبء (مجازاً). وهذا ليس قصد الكاتب، لأنه وضع الذئاب أولاً كتمهيد ليقدم بعدها فرائسها، وفريسة الذئب الحمَل وجمعها حِملان لا أحمال، وهي الخراف في المرعى.
وبمناسبة اقتراب موسم الحج تطوعت صحيفة بتقديم نصائح إلى من اعتزموا أداء الفريضة، ووضعت ضمن إطار ما ينبغي فعله عند الإصابة بضربة شمس، جاء فيها هذا الاقتراح: «شرب لقمات من الماء ببطء وبشكل مستمر»، نعرف أن اللقمات للطعام، والجرعة أو الرشفة أو عب الماء فهي للشرب، يبدو أن المحرر الكريم يأكل ولا يشرب.
الإماراتي نفدَ أم نفذَ؟
هل أتاكم نبأ الشيخ الإماراتي في عاصمة أسبانيا؟ يبدو أن الشيخ الجليل لديه قدرات خارقة، تجعله «ينفذ» من مسام الأشياء ومن المواقف المحرجة، برغم حجم سيارته الكبيرة واسمها العنكبوت القاتل، التي ركنها أمام مبنى البلدية.. «لانها لم تتسع في مرآب الفندق».. ومع ذلك فإنه «نفذ» من المخالفة. أخطأ المحرر النبيه أولاً لأنه طلب من السيارة ان تتسع أو تضيق.. ثم اخطأ مرة ثانية لما أراد إعلامنا - باللغة المحكية - أن الشيخ «نفدَ» بجلده كما يقال، فلماذا كتبها نفذ؟ السبب أنه لا يعرف مبادئ لغته التي يكتب بها، ولو أنه عرفها لكتب: نجا من المخالفة أو تفادها أو تخلص منها.. إلا إذا كان يريد اقناعنا ان الشيخ الإماراتي له نفوذ في اسبانيا تجعله ينفذ من المآزق كالماء في الغربال، والخلط بين نفذ ونفد منتشر، والدليل إعلان شركة سيارات عن استمرار السعر حتى نفاذ الكمية.
فضيحة صغيرة
برغم رغبتي بتأجيل الخوض في مستنقع الرطانة الهجينة «الأنجلوعربية» السائدة، فإنني أود الإشارة إلى فضيحة صغيرة، لغوية طبعاً منتشرة في صحفنا المحلية التي لا تحب الفضائح المفردة التي أعني هي CABLE، التي لا يكتبونها في جرائدنا إلا: كيبل ويجمعونها على كيابل وكيبلات.
أما الفضيحة فهي كون هذه المفردة ليست لها أدنى علاقة لا بالإنكليزية ولا بغيرها من لغات الأجانب، وإليكم الأسباب:
نقرأ في لسان العرب للمغفور له ابن منظور، وفي مادة كَبَل: أن الكبل قيد ضخم وجمعها كوابل وأكبل. يقال: كبّلتُ الأسير وكبلته إذا قيدته فهو مكبول. والكبل ما ثني من الجلد عند شفة الدلو فخرز، والكابول حبالة الصائد (يمانية). وفي الحديث: «ضحكتُ من قوم يؤتى بهم إلى الجنة في كبْل الحديد».
وقال الشاعر: إذا كنت في دار يهينك أهلها ولم تك مكبولاً بها.. فتحوّل.
ويقال: فُكت عنه أكبُله وهو جمع قلة، والجمع الصحيح أيضاً: كوابل لا كيابل ولا كابلات، من هنا نعرف أن القيد وحبالة الصائد وحبل الدلو، كانت تؤدي وظيفة «الحبل والأسلاك» اليوم، وما في حكمها، ومن منا لم يحفظ في المرحلة الإعدادية: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول.. متيم إثرها لم يفد.. مكبول.
لقد انتقلت هذه الكلمة العربية الفصحى إلى الغرب في مرحلة ما، وعادت إلينا كيابل وكيبلات، أصبحت لها مصانع في بلادنا، وشركات كيبل طبعاً.
فلماذا لا نسترد بضاعتنا ونطورها قليلاً ونقول: الكوابل للأسلاك وما شابهها؟ ولماذا لا نقول: البث المكبول لأقنية التلفاز التي تستعمل هذه الوسيلة تمييزاً لها عن البث الفضائي؟
هذه هي المرة الخامسة أو السادسة التي أكتب فيها إلى الصحف بشأن هذا التهاون غير المسوغ والاهمال للغتنا. دون أن تهتم صحيفة ما بلفت نظر محرريها «المكبلين» بجهلهم، إلى ضرورة تفادي هذا الخطأ الفاضح.
قصف على مقام الرّصد
أنا على يقين من قلة جدوى الكتابة، وما النماذج السابقة المقتطفة سريعاً من الصحف المحلية إلا نقطة في محيط امتهان العربية في بلاد العرب.
أتابع ما يكتبه ناقد دكتور من المملكة العربية السعودية في صحيفة محلية، فهو يطرح مواضيع ادبية صلتها باللغة قوية. وآخر ما قرأته بقلمه قصيدة موزونة مقفاة يبدو فيها تمكنه من لغة الضاد، اختار لها عنواناً طريفاً: «قصف منفرد من مقام الرصد». التلاعب بالكلمات موفق، القصف المنفرد في محل العزف، لمداعبة القراء بقصفهم بمطولته التي قارب عدد ابياتها السبعين.
غير ان مقام الرصد جاء ليوقع الأديب نفسه في خطأ شائع، وبصرف النظر عن كون القصف يحتاج إلى رصد، أي مراقبة ومتابعة في اللغة العسكرية.. لكن الرصد هنا في غير مقامه، ولكل مقام مقال.
مقام الرصد تحريف لأصل اسم المقام بالفارسية «الراست» أي المقام الأساسي والرئيس لأنه من أكثر المقامات الموسيقية اهمية. ويقابله في موسيقى الغرب مقام ماجور الكبير Magor - والعرب يطلقون على هذا المقام الكبير اسم العجم، والسبب مفهوم، ومع ذلك أتمنى على الاستاذ الكاتب ان يستمر في قصفنا على مقام الراست، مع رجاء الايجاز، عملاً بقول الشاعر السوري الراحل بدوي الجبل: «ويؤذي البلاغة التطويل»..
ما أخشاه - إذا وجدت كلماتي طريقها إلى النشر - أن يستعيد قارئ ما عنوان مقالة السيدة روابي البناي في القبس السادس من أكتوبر 2013 ليقول لي: «كشكشها ما تعرضهاش».. يكفينا ما نعانيه في غير هذا المجال.
آخر لحظة من فضلك
أثناء وضع هذا المقال على الطابع، تصفحت جريدة محلية صدرت لتوها، وقرأت تحت عنوان «سوالف» أنه تم تشكيل عدد من اللجان في الأيام المقبلة الماضية.. وفي صفحة اخيرة تساءلت الجريدة نفسها بشأن موضوع سياسي: «فهمونا شنو قاعد يصير؟»، عندما تفهمنا الجريدة كيف تكون الأيام المقبلة الماضية، ستفهم تلقائيا شنو قاعد يصير. إلا إذا كان المحرر يضمر القول أن الأيام المقبلة، ماضية في طريقها..
القبس
|
|
|
|
|