إيحاءات بقية أعضاء الجسد في الشعر العربي
أ.د. محمد رفعت زنجير
مثلما كان للوجه إيحاءات خاصة به وبأعضائه، فإن لبقية أعضاء الجسد من جيد وصدر وخصر ويد وساق إيحاءات خاصة بها، وهو ما سنبينه في هذا المبحث.
أولا: الجيد
تناول الشعراء الحديث عن الجيد، فهو بحد ذاته حلية عندما يكون جميلا ممتدا، قال الشريف الرضي:
حليه جيدهُ لا ما تقلده وكحله ما بعينيه من الكحلِ
وعادة ما يشبه الشعراء الجيد الجميل بجيد الظبي، ولكن التهامي يأبى ذلك، ويجعل جيد الظبي يشبه جيد محبوبته، وعيناه تشبه عيناها، وذلك على طريقة قلب التشبيه بقصد المبالغة، يقول:
يمانيةٌ للبدر سُنة وجهها وللظبي منها مقلتاها وجيدها
والأبيوردي يسير على خطا التهامي، ويذهب إلى أبعد مما ذهب إليه، فيجعل جيد الريم يضج وينزعج من الغيد، لأن الغيد قد تفوقت عليه في جيده وعينيه، يقول:
وموقف ضج جيد الريم من غيد فيه وأزري بألحاظِ المها كَحلُ
ثانيا: الصدر
تناول الشعراء الحديث عن الصدر وما فيه، قال أبو هلال العسكري: (وأحسن ما قيل في الثدي:
قبيح بمثلك أن تهجري وأقبح من ذاك أن تهجري
أقاتلتي بفتور الجفون ورمانتين علـــــــــى منبر
كحقينِ من لب كافورةٍ برأســـــــيهما نقطتا عنبر
والناس يستحسنون قول مسلم بن الوليد:
فأقسمت أنسي الداعيات إلى الصبا وقد فاجأتها العـــــين والستر واقع
فغطت بكفيها ثمار نحورهـــــــــا كما أيدي الأسارى أثقلتها الجوامع
وهو حسن جدا).
وقال ابن المعتز في النهود:
يا غصنا إن هــــزه مشيه خشيت أن يسقط رمانه
ارحم مليكا صار مستعبدا فقد ذل في حبك سلطانه
لقد تفنن الشعراء في رسم صور مختلفة للنهود، مستلهمين من الفاكهة والكافور والعنبر أخيلتهم، ووصفوا حركة المرأة في تغطية ما ينبغي ستره، وما في ذلك من المعاناة في الستر والحمل، واتخذ مسلم بن الوليد لذلك صورة من الأسير الذي تثقل يديه الجوامع، وهذه الصور كلها توضح أثر الجسد في مخيلة الشعراء، وإلهامه لهم شتى المعاني، وما كنا لنبسط القول في هذا، فهو باب كبير، وفيه شعر فاضح جدا، وقد أعرضنا عنه جميعا، واكتفينا بالإيجاز هنا لغرض تكامل البحث الذي تقتضيه المنهجية العلمية.
ثالثا: الخصر
تكلم الشعراء عن الخصر، وهم يرغبونه نحيفا متثنيا، قال امرؤ القيس:
وكَشحٍ لطيفٍ كالجديلِ مُخصَّرٍ وساقٍ كأنبوبِ السقيِّ المُذَلل
وقال الأعشى يصف قوام المرأة، وما في خصرها من النحافة والتثني مع مالها من ضخامة الصدر والأرداف:
صِفْرُ الوشاحِ وملءُ الدرعِ بَهكَنةٌ إذا تأتى يكادُ الخصرُ يَنْخزِلُ
ويبالغ ابن الرومي في وصف نحافة خصر محبوبته لدرجة جعلته يرثي لها! بينما هو يضحك لضخامة أردافها، يقول:
وتمايلت فضحكت من أردافها عجبا ولكني بكيت لخصرها
وهذا البيت جمع فيه ابن الرومي بواسطة الصنعة بين الضحك والبكاء في آن واحد، وكان يعجبهم من المرأة أن تكون ضخمة الأرداف والعجيزة، نحيفة الخصر، وفي هذا الإطار قال ابن عنين مشبها الخصر بالقضيب اللين فوق كثيب من الرمل::
وأهيف عســـــــــال القوام كأنه قضيب على دِعصٍ من الرمل قد نما
رابعا: اليد والأنامل
الشعر في اليد كثير، فهي أداة التواصل والسلام والنعمة وغير ذلك، قال امرؤ القيس يصف بنان محبوبته ولينه:
وتعطو برَخْصٍ غيرِ شثنٍ كأنهُ أساريعُ ظبيٍ أو مساويكُ إِسْحِلِ
فاليد لينة ناعمة تشبه الأساريع وهي ديدان لينة لدنة تكون على الرمل، أو تشبه مساويك نوع لين من أغصان الشجر.
وكانوا يشبهون خضابها بالعنم، وهو نبت ثمره أحمر، قال المرقش الأكبر وهو من شواهد التشبيه المفروق:
النشر مسك والوجوه دنا نير وأطراف الأكف عنم
شبه هنا ثلاثة أشياء كلا على حدة، وما هذه التشبيهات إلا دليل على ما تؤديه لغة الجسد من أثر وانفعال عند الآخرين.
والشعر في هذا الباب كثير، فقد ساق أبو هلال العسكري أمثلة كثيرة لما قيل في اليد، فقال: (وقال الناشئ وهو من أحسن الواصفين أيضا:
من كف جارية كأن بنانها من فضة قد طرّفت عنابــــــا
وكأن يمناها إذا نطقت به يلقي على يدها الشمال حسابا
وقال أيضا:
لنا قينة ترنو بناظــــــــــرتين بما في قلوب النــــــــاس عالمتين
تخال تطاريف الخضاب بكفها فصوص عقيق فوق قضيب لجين
وقال:
متعاشقان مكاتمان هواهما قد نام بينهما العتابُ فطابا
يتناقلان اللحظ من جفنيهما فكأنما يتدارسان كتابــــــا
وإذا هدت عين الرقيب تخالست كفاهما حلس السلامِ سلابا
بأنامل منه يلوحُ مدادهــــا وأنامل منها كسين خضابا
فكأنما يجني لها من كفـــهِ عنبا وتجنيه له عنابــــــــا
يذكر أثر المداد بأنامله وأثر الخضاب بأناملها).
هكذا جعلوا الأنامل من فضة، وعناب، وعقيق، وغير ذلك، وبينوا لغة الأنامل واليد وما فيها من دلالات بين المتحابين، وذلك إنما يدل على أهمية اليد وما لها من إيحاءات وإيثارة، قد لا تقوم بها العبارة.
واليد وسيلة الوداع أيضا، قال أحد عقلاء المجانين:
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهمو وحملوها وسارت بالدمى الإبلُ
وقلبتْ بخلال السجف ناظرَها يرنو إليَّ ودمع العين ينهمـــــل
وودعت ببنانٍ زانه عنـــــــمٌ ناديت لا حملت رجلاك يا جمل
فقد ودعته ببنانها المخضوب، مما أثار في نفسه الحزن والجزع، وراح يدعو على الجمل، أليس في هذا دليل على أن الإشارة باليد تفعل فعلها بالقلب، وأن رحلتها قد تكون سبب فقدانه للحياة، وهو ما حل به كما يروي الخبر.
ولغة اليد ليست قاصرة على العشاق، فهي تدخل في باب المديح أيضا، أليست اليد هي وسيلة النعمة؟ قال البحتري يمدح محمد بن علي القمي الكاتب:
ملك أغر لآل طلحة نجره كفاه أرض سمحة وسماء
فقد شبه كفيه في عطائهما المتواصل بالأرض التي تنبت الكلأ والسماء التي تهطل بالمطر، وهذا يدل على شمول العطاء وكثرته وعدم انقطاعه.
وفي السياق ذاته قال المتنبي:
له أياد إليَّ سابقة أعد منها ولا أعددها
واليد هنا يراد بها النعمة، وهي من المجاز مرسل الذي تكون علاقته السببية، إذ لما كانت اليد أداة للنعمة، صح أن ينسب الفضل إليها.
واليد ليست أداة عطاء دائما، فقد تكون وسيلة منع أيضا، وذلك كما قال سبط ابن التعاويذي يهجو أهل بغداد مشبها أياديهم بالصخر في إمساكها، والعجب أن يكون هذا مع حسن أخلاقهم وكريم معشرهم، حيث شبه أخلاقهم بالماء الزلال:
وأخلاق سكانها كالزلال ولكنَّ أياديهم جلمد
وقال أيضا في الموضوع ذاته، مشبها أياديهم بالأقفال:
فوجوههم عُوذٌ على أموالهم وأكفهم من دونها أقفال
واليد قد تشبه حركتها بما فيها من حلي، صوت الماء في متحف الطبيعة، حيث يصل الماء كالموسيقى الناعمة التي تشبه وسواس الحلي في بعض الشعاب، قال المتنبي:
وأمواه يصلُّ بها حصاها صليلَ الحلي في أيدي الغواني
وهكذا توحي حركة اليد الصامتة للشاعر بشتى الصور التي ينتفع بها في مختلف الأغراض الشعرية.
خامسا: الساق
للساق إيحاءاتها أيضا في مخيلة الشعراء، قال امرؤ القيس:
وكَشحٍ لطيفٍ كالجديلِ مُخصَّرٍ وساقٍ كأنبوبِ السقيِّ المُذَلل
شبه الساق بالبردي المسقي، وهذا يدل على لينها واستقامتها، وقد استمد الشاعر تشبيهه من متحف الطبيعة.
وفي صورة أخرى، نجد ذا الرمة أكثر تعملا من امرئ القيس في وصف الساق، وتأثيرها في نفسه، حيث قال:
لم أنسه إذا قام يكشف عامدا عن ساقهِ كاللــــؤلؤ البراق
لا تعجبوا إن قام فيه قيامتي إن القيامة يوم كشفِ الساق
فرؤية الساق البيضاء التي تبرق كاللؤلؤ نصاعة وصفاء، كانت بمثابة حياة أخرى للشاعر، أو خلق جديد، وقد عبر عنه بقيام يوم القيامة.
وقال آخر في السياق ذاته:
جاءتْ بساق أبيض أملس كاللؤلؤ يبدو لعشــــــاقـــها
فافتتنتْ فيها جميعُ الورى وقامت الحربُ على ساقها
وهذه الصورة لا تخلو من مبالغة، وقد أراد الشاعر أن يبين افتتان الناس وإعجابهم بالساق المليحة، فعبر عنه بقيام الحرب!
وعلى الرغم من أهمية الساق وفتنتها، فالشعر فيها قليل، ولا عجب على من عشق جمال الوجه أن يشغله عما سواه، والعرب أمة مستترة متحجبة، وإنما كشف الساق من شأن الجواري، ولعل هذا هو أحد الأسباب التي جعلت الشعر في موضوع الساق قليلا.
المصادر
1. أسرار البلاغة، للجرجاني، تحقيق هـ. ريتر، دار المسيرة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1403هـ/ 1983م.
2. الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزويني، تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الخامسة، 1403هـ/ 1983م.
3. البيان والتبيين، للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي بمصر، الطبعة الرابعة، 1395هـ/ 1975م.
4. تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الأول، للدكتور شوقي ضيف، الطبعة الثامنة، دار المعارف بمصر
5. تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الثاني، للدكتور شوقي ضيف، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية.
6. التوجيه والإرشاد النفسي، للدكتور حامد عبد السلام زهران، عالم الكتب، القاهرة.
7. ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، للثعالبي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف.
8. جواهر البلاغة، للهاشمي، دار الفكر بيروت، الطبعة الثانية عشرة، 1406هـ/ 1986م.
9. ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، دار المعارف بمصر، الطبعة الرابعة.
10. شرح القصائد العشر، للخطيب التبريزي، تحقيق الدكتور فخر الدين قباوة، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1400هـ/ 1980م.
11. ديوان المتنبي بشرح العكبري، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، دار الفكر.
12. ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري، عالم الكتب
13. الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1400هـ/ 1980م.
14. السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق طه عبد الرءوف سعد، دار الفكر، بيروت، 1409هـ/ 1989م.
15. شرح ديوان عمر بن أبي ربيعة، عبد الله مهنا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ/ 1986م.
16. الشعر والشعراء، لابن قتيبة، راجعه محمد عبد المنعم العريان، دار إحياء العلوم، بيروت، الطبعة الرابعة، 1412هـ/ 1991م.
17. طبقات الشعراء، لابن المعتز، تحقيق عبد الستار فراج، دار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة.
18. الكامل في اللغة والأدب، للمبرد، دار المعارف، بيروت.
19. مشكاة المصابيح، للتبريزي، بتحقيق الألباني، المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الثالثة، 1405هـ/ 1985م.
20. معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، للعباسي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، عالم الكتب، بيروت.
21. المعجم الوسيط، د. إبراهيم أنيس مع آخرين، دار إحياء التراث الإسلامي، قطر.
22. مختارات البارودي، مشروع المكتبة الجامعة، مكة المكرمة، بيروت، الطبعة الأولى، 1404هـ/ 1984م.
23. المستطرف في كل فن مستظرف، شهاب الدين الأبشيهي، دار مكتبة الحياة، بيروت، 2003م.
24. الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء، للمرزباني، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي
1 - مختارات البارودي، (4/285).
2 - المرجع السابق، (4/297)،
3 - المرجع السابق، (4/376)،
4 - ديوان المعاني، (1/253). [مصدر سابق].
5 - المصدر السابق، (1/252).
6 - شرح القصائد العشر، للخطيب التبريزي، تحقيق الدكتور فخر الدين قباوة، ص (60). [مصدر سابق]
7 - الكشح: الخصر. اللطيف: الصغير الحسن. الجَديل: زمام يتخذ من السيور، فيجيء حسنا لينا يتثنى. الأنبوب: البَردي. السقي: النخل المسقي، المذلل: ذُلل بالماء، حتى يطاوع كل من مد إليه يده.
8 - شرح القصائد العشر، للخطيب التبريزي، تحقيق الدكتور فخر الدين قباوة، ص (421). وقد تقدم.
9 - صفر الوشاح: خميصة البطن، دقيقة الخصر، وهي تملأ الدرع ضخمة، والبهكنة: الكبيرة، وتأتى: ترفق، وتنخزل: تتثنى.
10 - المستطرف في كل فن مستظرف، شهاب الدين الأبشيهي(1/381)، [مصدر سابق]
11 - مختارات البارودي، (4/400)، [مرجع سابق]
12 - شرح القصائد العشر، للخطيب التبريزي، تحقيق الدكتور فخر الدين قباوة، ص (62).
13 - تعطو: تتناول، رخص: بنانن رخص، شثن: كز وغليظ، ظبي: اسم كثيب، الأساريع: دواب تكون في الرمل وقيل في الحشيش ظهورها ملس، والأسحل: شجر له أغصان ناعمة.
14 - الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزويني، تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، (2/370). [مصدر السابق]
15 - ديوان المعاني، (1/254-255). [مصدر سابق].
16 - المستطرف في كل فن مستظرف، شهاب الدين الأبشيهي(2/21)، [مصدر سابق]
17 - مختارات البارودي، (1/219)، [ مرجع سابق]
18 - ديوان المتنبي بشرح العكبري، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، (1/304)، دار الفكر، وجواهر البلاغة، للهاشمي، ص (292)، دار الفكر بيروت، الطبعة الثانية عشرة، 1406هـ/ 1986م.
19 - مختارات البارودي، (4/456)،
20 - المرجع السابق ، (4/458).
21 - المرجع السابق ، (4/110)،
22 - شرح القصائد العشر، للخطيب التبريزي، تحقيق الدكتور فخر الدين قباوة، ص (60). [مصدر سابق]
23 - الكشح: الخصر. اللطيف: الصغير الحسن. الجَديل: زمام يتخذ من السيور، فيجيء حسنا لينا يتثنى. الأنبوب: البَردي. السقي: النخل المسقي، المذلل: ذُلل بالماء، حتى يطاوع كل من مد إليه يده.
24 - المستطرف في كل فن مستظرف، شهاب الدين الأبشيهي(1/382)، [مصدر سابق]
25 - المصدر السابق (1/382).
|