إيحاءات حركة الجسد في الشعر العربي
أ.د. محمد رفعت زنجير
أولا: حركة المشي
وصف الشعراء مشية المرأة، ومن أبرع الشعراء الذين أجادوا في هذا الباب الأعشى، حيث قال:
ودعْ هريرةَ إنَّ الـــركبَ مُرتَحلُ وهل تُطيقُ وداعاً أيها الرجلُ
غرّاءُ فرعاءُ مصقولٌ عوارِضُها تمشي الهوينى كما يمشي الوجِي الوَحِلُ
كأنَّ مِشيتها من بيتِ جارتِهــــــا مرُّ السحابةِ لا ريثٌ ولا عَجَلُ
تسمعُ للحَلْيِ وسواساً إذا انصرفتْ كما استعانَ بريحٍ عِشرِقٌ زَجل
ليستْ كمنْ يكرهُ الجيرانُ طلعَتها ولا تراها لسرِّ الجـــارِ تختتِلُ
شبه مشيتها بما فيها من التثني بمشية من يشتكي حافره، فتراه يميل خلال مشيه، وزاد بالمبالغة فجعل المشي فوق الوحل حيث تنزلق الأقدام، فيكون المشي أكثر حذرا وتمايلا، ثم شبه سرعة مشيها بالسحابة التي تتهادى وسط السماء، وتسير باعتدال ولطف، وذكر ما يعتري مشيتها من صوت حليها، وهو صوت حسن شبهه بما تسقطه الريح على الأرض من حب شجيرة صغيرة يتساقط حبها عند جفافه، فإذا ضربته الريح سارع بالتساقط، وأدى صوتا يشبه صوت الحلي، وبين أنها محبوبة لدى جيرانها، يحبون النظر إليها عند مشيها، لأنها جمعت بين جمال الحس والأخلاق، فهي لا تخطف أسرار الناس، ولا تشتغل بما لا يعنيها، والأعشى هنا يحفل بمشيها ليصف لنا بعد ذلك قوام المرأة:
يكادُ يصرعُها لــــــــــولا تشددُّها إذا تقومُ إلى جارتِهــــــا الكسلُ
إذا تلاعبُ قِرناً ســــــــاعةً فَتَرتْ وارتَجَّ منها ذَنوبُ المتنِ والكَفَلُ
صفْرُ الوشاحِ وملءُ الدرعِ بَهكَنةٌ إذا تأتى يكــادُ الخصرُ يَنْخزِلُ
نعمَ الضجيعُ غداةَ الدَّجنِ يصرعُها للذة المرءِ لا جـــافٍ ولا تَفِلُ
فحركتها بطيئة لما فيها من الدل والكسل، وهي امرأة لعوب، ممتلئة البدن، نحيفة الخصر، جمعت الحسن من أطرافه، وفي هذا رسالة إلى معجبيها تغني عن الكلام.
وفي السياق ذاته قال مهيار الديلمي:
رحيبة باع الحسن طاولت الـــــــدمى فزادت بمعنى في الجمــال بديع
خطت في الثرى خطو البطيء وقسمت لحاظا لها في القلب مشي سريع
المرأة هنا فاقت الدمى جمالا، وهي تمشي ببطء، وإن كانت لحاظها تخترق القلب بسرعة.
ثانيا: اللين والتمايل
تحدث الشعراء كثيرا عن اللين والتمايل في حركة المرأة، قال ابن المعتز:
يحرك الدلُّ في أثوابه غصناً ويطلع الحسن من أزراره القمرا
شبه حركة المحبوب بالغصن، لما فيها من لين وتثني واهتزاز، وشبه بدنه المستتر بالقمر! والتشبيه بالغصن شائع عند شعراء العرب، وهم يختارون الأشجار اللدنة اللينة الأغصان فيشبهون بها، فمن ذلك أيضا ما قاله المتنبي وهو من شواهد التقسيم:
بدت قمرا ومالت خوط بان وفاحت عنبرا ورنت غزالا
جمع في هذا البيت تشبيهات أربعة، تشمل: الشكل والحركة والرائحة والنظرة، فالشكل كالقمر، والحركة كأغصان الخوط بان، والرائحة كالعنبر، والنظرة كالغزال، وقد كان القدماء يتفنون في هذا الجانب، ويتسابقون لحشو أبيات الشعر من روائع التشبيه ومليح الاستعارات، لأنهم مشغولون بالجمال الخارجي، أكثر من شغلهم بالجو النفسي للمرأة المحبوبة وعالمها الداخلي، وهو ما يعتني به النقاد اليوم أكثر من عنايتهم بزخرف اللفظ وندرة المعنى، الذي كان مضمار السباق للأدب والنقد القديم.
وفي صورة أخرى يشبه مهيار الديلمي حركة الخصر وما فيه من هزة وتثني، بحركة الرمح وما فيها من اهتزاز، يقول:
لم تعبها هزةٌ في قدها إنه من صفةٍ الرمح الخطل
وليس تشبيه الحركة أو المشي بالرمح أو الغصن أو السحابة إلا دليلا على ما يحدثه الانفعال بالجمال لدى الشعراء من لغة باطنة، تكون مكتوبة حسا وخيالا ومعنى في مخيلة الشاعر وعقله الباطن، قبل أن تكتب لفظا وشعرا في قراطيس يتداولها الناس ويقرؤونها.
المصادر
1. أسرار البلاغة، للجرجاني، تحقيق هـ. ريتر، دار المسيرة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1403هـ/ 1983م.
2. الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزويني، تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الخامسة، 1403هـ/ 1983م.
3. البيان والتبيين، للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي بمصر، الطبعة الرابعة، 1395هـ/ 1975م.
4. تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الأول، للدكتور شوقي ضيف، الطبعة الثامنة، دار المعارف بمصر
5. تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الثاني، للدكتور شوقي ضيف، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية.
6. التوجيه والإرشاد النفسي، للدكتور حامد عبد السلام زهران، عالم الكتب، القاهرة.
7. ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، للثعالبي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف.
8. جواهر البلاغة، للهاشمي، دار الفكر بيروت، الطبعة الثانية عشرة، 1406هـ/ 1986م.
9. ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، دار المعارف بمصر، الطبعة الرابعة.
10. شرح القصائد العشر، للخطيب التبريزي، تحقيق الدكتور فخر الدين قباوة، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1400هـ/ 1980م.
11. ديوان المتنبي بشرح العكبري، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، دار الفكر.
12. ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري، عالم الكتب
13. الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1400هـ/ 1980م.
14. السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق طه عبد الرءوف سعد، دار الفكر، بيروت، 1409هـ/ 1989م.
15. شرح ديوان عمر بن أبي ربيعة، عبد الله مهنا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ/ 1986م.
16. الشعر والشعراء، لابن قتيبة، راجعه محمد عبد المنعم العريان، دار إحياء العلوم، بيروت، الطبعة الرابعة، 1412هـ/ 1991م.
17. طبقات الشعراء، لابن المعتز، تحقيق عبد الستار فراج، دار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة.
18. الكامل في اللغة والأدب، للمبرد، دار المعارف، بيروت.
19. مشكاة المصابيح، للتبريزي، بتحقيق الألباني، المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الثالثة، 1405هـ/ 1985م.
20. معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، للعباسي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، عالم الكتب، بيروت.
21. المعجم الوسيط، د. إبراهيم أنيس مع آخرين، دار إحياء التراث الإسلامي، قطر.
22. مختارات البارودي، مشروع المكتبة الجامعة، مكة المكرمة، بيروت، الطبعة الأولى، 1404هـ/ 1984م.
23. المستطرف في كل فن مستظرف، شهاب الدين الأبشيهي، دار مكتبة الحياة، بيروت، 2003م.
24. الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء، للمرزباني، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي
1 - شرح القصائد العشر، للخطيب التبريزي، تحقيق الدكتور فخر الدين قباوة، ص (418-420).
2 - الغراء: البيضاء الواسعة الجبين، الفرعاء: الطويلة، العوارض: الرباعيات والأنياب، الوجي: الذي يشتكي حافره، ولم يَحْف، وهو مع ذلك وحل، فهو أشد عليه.
2 - العشرق: شجيرة مقدار ذراع، لها أكمام، فيها حب صغار، إذا جفت فمرت بها الريح، تحرك الحب، فشبه صوت الحلي بخشخشته على الحصى.
4 - شرح القصائد العشر، للخطيب التبريزي، تحقيق الدكتور فخر الدين قباوة، ص (420-421).
5 - ذنوب المتن: العجيزة.
6 - صفر الوشاح: خميصة البطن، دقيقة الخصر، وهي تملأ الدرع ضخمة، والبهكنة: الكبيرة، وتأتى: ترفق، وتنخزل: تتثنى.
7 - الجاف: الغليظ، التفل: المنتن الرائحة
8 - مختارات البارودي، (4/308)، [ مرجع سابق]
9 - ديوان المعاني، (1/232). [مصدر سابق].
10 - الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزويني، تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، (2/510). [مصدر السابق]
11 - مختارات البارودي، (4/309)، [ مرجع سابق]
|