عيوب الألفاظ في تراث العرب
أ.د. محمد رفعت زنجير
الفصاحة تقتضي سلامة اللفظ المفرد أولا، ثم فصاحة الكلام المركب من الجمل، والفصاحة في المفرد عند البلاغيين تكون بتجرده عن ثلاثة عيوب، وهي عندهم: "خلوصه من تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة القياس” .
والتنافر بين الحروف يرجع إلى بنية الكلمة أساسا، وذلك عندما لا يكون هنالك تجانس صوتي بين حروفها مما يسبب صعوبة النطق بها وهو معيب عند الفصحاء، ويعبر البلاغيون عن ذلك بقولهم: “فالتنافر منه ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقل على اللسان، وعسر النطق بها، كما روي أن أعرابيا سئل عن ناقته، فقال: (تركتها ترعى الهُعْخُعَ). ومنه ما دون ذلك كلفظ مستشزرات في قول امرئ القيس:
* غدائره مستشزرات إلى العلا *
ولاشك أن هذه الحروف هي بنية الكلمات، والعناية بها هو أساس وجود النص الجيد، ولذلك قال الباقلاني (ت 403 هـ): "وعذوبة الشعر تذهب بزيادة حرف أو نقصان حرف، فيصير إلى الكَزازة، وتعود ملاحته بذلك مُلوحة، وفصاحته عِيا، وبراعته تكلفا، وسلاسته تعسفا، وملاسته تلويا وتعقد" .
بل لقد اشترط الأسلاف أيضا خفة الحركات في الكلمة الواحدة لكي يسهل النطق بها، يقول ابن الأثير (ت558 هـ): "ومن أوصاف الكلمة أن تكون مبنية من حركات خفيفة، ليخف النطق بها، وهذا الوصف يترتب على ما قبله من تأليف الكلمة، ولهذا إذا توالى حركتان خفيفتان في كلمة واحدة، لم تستثقل، وبخلاف ذلك الحركات الثقيلة، فإنه إذا توالى منها حركتان في كلمة واحدة استثقلت، ومن أجل ذلك استثقلت الضمة على الواو، والكسرة على الياء، لأن الضمة من جنس الواو، والكسرة من جنس الياء، فتكون عند ذلك كأنها حركتان ثقيلتان"
وأما الغرابة فهي: "أن تكون الكلمة وحشية، لا يظهر معناها، فيحتاج في معرفته إلى أن ينقر عنها في كتب اللغة المبسوطة، كما روي عن عمر بن عيسى النحوي، أنه سقط عن حمار، فاجتمع عليه الناس، فقال: (ما لكم تكأكأتم عليَّ تكأكؤكُم على ذي جنة؟! افرنقعوا عني). أي اجتمعتم تنحوا.
أو يخرج لها وجهٌ بعيد، كما في قول العجاج:
* وفاحما ومَرْسِنا مُسرجا *
فإنه لم يعرف ما أراد بقوله: (مسرجا) حتى اختلف في تخريجه، فقيل هو من قولهم للسيوف: (سيوف سريجية)، منسوبة إلى قَيْنٍ يقال له: سُريج. يريد أنه في الاستواء والدقة كالسيف السريجي. وقيل: من السراج. يريد أنه في البريق كالسراج. وهذا يقرب من قولهم: (سَرِجَ وجهه) بكسر الراء، أي: حسُن. و (سرَّجَ الله وجهه) أي: بهجه وحسنه".
والعيب الثالث الذي يعتري اللفظة المفردة هو "ومخالفة القياس، كما في قول الشاعر:
* الحمد لله العلي الأجلل *
فإن القياس: (الأجلِّ) بالإدغام. وقيل: خلوصه مما ذكر، ومن الكراهة في السمع، بأن تُمجَّ الكلمة، ويُتبرأُ من سماعها، كما يُتبرأ من سماع الأصوات المنكرة، فإن اللفظ من قبَيل الأصوات، والأصوات منها ما تستلذ النفس سماعه، ومنها ما تكره سماعه، كلفظ (الجِرِشى) في قول أبي الطيب:
* كريمِ الجِرِشَّى شريفِ النسبْ *
أي كريم النفس،وفيه نظر. ثم علامة كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرا، أو أكثر من استعمالهم ما بمعناها”
وينبه الجاحظ (ت 255هـ) إلى أنه عادة ما يميل الناس إلى استخدام الألفاظ السهلة "وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها، وغيرها أحق بذلك منها، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السغب، ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة" .
وبسبب تتبع هذه السهولة ربما تركت العامة الفصيح واتبعت ما هو أقل فصاحة، يقول الجاحظ (ت 255هـ): "والعامة ربما استخفت أقل اللغتين وأضعفهما، وتستعمل ما هو أقل في أصل اللغة استعمالا، وتدع ما هو أظهر وأكثر، ولذلك صرنا نجد البيت من الشعر قد سار، ولم يسر ما هو أجود منه، وكذلك المثل السائر" . وهذا أمر مهم للغاية لفت الجاحظ الأنظار إليه، يحمل في طياته ضرورة مراعاة أحوال الناس وفطرتهم، فلا ينبغي أن يكون هم الأديب أو الشاعر تصيد الغريب، والتحدث بلغة لا يفهمها الناس، وإنما ينبغي مراعاة أحوالهم لأن رسالة الأدب موجهة في الأصل إليهم، ولذلك انتقد أبو هلال العسكري (ت 395 هـ) منهج المفضل الذي كان يتتبع غريب اللغة، ويبتعد عما هو شائع مشهور، يقول: "وكان المفضل يختار من الشعر ما يقل تداول الرواة له، ويكثر الغريب فيه، وهذا خطأ من الاختيار، لأن الغريب لم يكثر في كلام إلا أفسده، وفيه دلالة الاستكراه والتكلف" .
ولأن مراعاة أحوال الناس ضرورة، فهم بطبعهم ينـزعون إلى السهولة في الألفاظ والتراكيب، فقد دعا الجاحظ (ت 255هـ) إلى إلقاء النوادر كما هي، وعدم التلاعب بحروفها وكلماتها بقصد إصلاح اللحن فيها، لأن ذاك سيفسد جمالها، ولا يتقبلها الناس بعد ذلك، يقول: "ومتى سمعت حفظك الله بنادرة من نوادر كلام الأعراب، فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيرتها بأن تلحن في إعرابها، وأخرجتها مخارج كلام المولدين والبلديين، خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير، وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، ومُلحة من مُلح الحشوة والطَّغام، فإياك أن تستعمل فيها الإعراب، أو تتخير لها لفظا حسنا، أو تجعل لها من فيكَ مخرجا سرِيا، فإن ذلك يفسد الإمتاع بها، ويخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له، ويذهب استطابتهم إياها واستملاحهم لها" .
ومن عيوب الألفاظ أيضا مما ذكره البغدادي (ت 517 هـ): اللحن، والتجميع ، والإطالة من غير ضرورة، والتكرير، والوحشي المتروك ، وبعض هذه العيوب يدخل في عيوب التراكيب كما سيأتي.
المصادر والمراجع
1- أدب الكاتب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ص (14-15). دار المطبوعات العربية، بيروت.
2- أسرار البلاغة، للجرجاني، تحقيق هـ. ريتر، دار المسيرة، الطبعة الثالثة، 1403هـ / 1983م.
3- إعجاز القرآن، للباقلاني (ت 403 هـ)، تحقيق السيد صقر، دار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة.
4- الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزويني (ت 739 هـ) (739 هـ)، شرحه د. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الخامسة، 1403هـ/1983م.
5- البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي بمصر، الطبعة الرابعة، 1395هـ/1975م.
6- التلخيص، للخطيب القزويني (ت 739 هـ)، شرحه عبد الرحمن البرقوقي، دار الفكر العربي.
7- دلائل الإعجاز، للجرجاني، تحقيق محود شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة.
8- ديوان المعاني، للعسكري، عالم الكتب.
9- الروض الأنف، للسهيلي، دار الفكر، بيروت، 1409هـ / 1989م.
10- سر الفصاحة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1402هـ / 1982م.
11- العمدة في صناعة الشعر ونقده، ابن رشيق القيواني تحقيق د. مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ / 1983م.
12- عيار الشعر، شرح عباس عبد الساتر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1402هـ/1982م.
13- فقه اللغة وسر العربية، للثعالبي، تحقيق خالد فهمي، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1418هـ / 1998م.
14- فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، دار الفكر.
15- القاموس المحيط، للفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1407هـ / 1987م.
16- قانون البلاغة في نقد النثر والشعر، للبغدادي (ت 517 هـ)، تحقيق د. محسن فياض عجيل، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ/1981م.
17- قصص الأنبياء، لابن كثير، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1413هـ / 1993م.
18- كتاب الحيوان، للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، المجمع العلمي العربي الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1388هـ / 1969م.
19- كتاب الصناعتين، تحقيق د. مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ/1981م.
20- الكشاف، تحقيق مصطفى حسين أحمد، دار الكتاب العربي، بيروت، 1406هـ /1986م.
21- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، لابن الأثير، تحقيق د. أحمد الحوفي، ود. بدوي طبانة، دار نهضة مصر، القاهرة.
22- مختارات البارودي، مشروع مكتبة الجامعة، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1404هـ / 1984م.
23- مرقاة المفاتيح، للقاري، المكتبة الإمدادية، باكستان.
24- المزهر في علوم اللغة وآدابها، للسيوطي، تحقيق محمد أحمد جاد المولى بك، وعلي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1406هـ / 1986م.
25- مشكاة المصابيح، للتبريزي، بتحقيق الألباني، المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الثالثة، 1405هـ/1985م.
26- المعجم الوسيط، الدكتور إبراهيم أنيس وآخرون، دار إحياء التراث الإسلامي، قطر.
27- الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء، للمرزباني تحقيق علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي، القاهرة.
28- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري، راجعه محمد علي الضباع، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة.
29- نقد الشعر، قدامة بن جعفر، تحقيق كمال مصطفى، الطبعة الأولى، مكتبة الخانجي، القاهرة.
30- الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البيجاوي طبعة عيسى البابي الحلبي.
|