التجديد في اللغة
د. محمد سعيد حسب النبي
أشار علي عبد الواحد وافي في كتابه اللغة والمجتمع إلى حركة التجديد في اللغة؛ فأكد على أن التجديد في اللغة تبدى في مظاهر كثيرة، من أعظمها الأمور الآتية:
1-تأثير الأدباء والكتاب بأساليب اللغات الأجنبية، واقتباسهم أو ترجمتهم لمفرداتها ومصطلحاتها، وانتفاعهم بأفكار أهلها وإنتاجهم الأدبي والعلمي. و لا يخفى ما لهذا كله من أثر بليغ في نهضة لغة الكتابة وتهذيبها واتساع نطاقها وزيادة ثروتها. والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأمم الغابرة وفي العصر الحاضر. فأكبر قسط من الفضل في نهضة اللغة العربية في عصر بني العباس يرجع إلى انتفاع الأدباء والعلماء باللغتين الفارسية والإغريقية. فقد أخذوا في ذلك العصر يترجمون آثارهما، ويعقبون عليها بالشرح والتعليق، ويستغلونها في بحوثهم، ويحاكون أساليبهما، ويقتبسون منهما عدداً كبيراً من المفردات العلمية وغيرها، ويمزجونها بمفردات لغتهم عن طريق تعريبها تارة وعن طريق ترجمتها تارة أخرى، فاتسع بذلك متن اللغة العربية وازدادت مرونة وقدرة على تدوين الآداب والعلوم. ويرجع كذلك أكبر قسط من الفضل في نهضة اللغة العربية بمصر في العصر الحاضر إلى انتفاع الصحفيين والأدباء والعلماء باللغات الأوروبية الحديثة، ومحاكاتها لأساليبها، وتعريبهم أو ترجمتهم لألفاظها ومصطلحاتها، واستغلالهم في مؤلفاتهم ومترجماتهم لمنتجات أهلها في شتى ميادين الحركة الفكرية.
ويشير وافي إلى أن لغة الكتابة في فرنسا في العصر الحاضر مدينة بأهم نواحي رقيها إلى تأثرها باللغتين اللاتينية والإغريقية من جهة، وباللغات الأوروبية الحديثة من جهة أخرى. فمنذ عصر النهضة لم ينفك أدباء فرنسا وعلماؤها دائبين على اقتباس المفردات اللاتينية واليونانية القديمة، ومحاكاة أساليب هاتين اللغتين وترسم قواعدهما ومناهجهما في البحث. وقد أخذوا منذ عهد غير بعيد يقتبسون كثيراً من المفردات والأساليب عن اللغات الأوروبية الحديثة وخاصة الإنجليزية والألمانية. ولولا آلاف المفردات التي اقتبسها المحدثون من أدباء ألمانيا وعلمائها من اللغة اللاتينية وما تفرع عنها ومن اللغات الأوروبية الحديثة وبخاصة الفرنسية والإنجليزية، ما قويت لغة الكتابة بألمانيا أن تصل إلى الشأو الذي هي عليه الآن. ومثل هذا يقال في معظم لغات الكتابة في العصر الحاضر.
وكثيراً ما تقتبس لغة الكتابة عن اللغات الأخرى مفردات لها نظير في متنها الأصلي، وكثيراً ما تقتبس مفرداً من لغة وتقتبس نظيره في الدلالة عن لغة أخرى. وإلى هذه الظواهر وما إليها يرجع السبب في كثرة الألفاظ المترادفة (المشترك المعنوي) في لغات الكتابة، فما يذهب إليه بعضهم من أن الترادف بالمعنى الكامل لهذه الكلمة لا وجود له في اللغات، ليس صحيحاً إلا فيما يتعلق ببعض لغات المحادثة التي تظل بمأمن من الاحتكاك باللغات الأخرى. أما لغات الكتابة التي يستحيل في العادة بقاؤها بمعزل عن غيرها، ولغات المحادثة التي يتاح لها هذا الاحتكاك، فلا تخلو من الترادف بالمعنى الصحيح، للسبب الذي ذكره وافي في كتابه.
2-إحياء الأدباء والعلماء لبعض المفردات القديمة والمهجورة. فكثيراً ما يلجئون إلى غير ذلك للتعبير عن معان لا يجدون في المفردات المستعملة ما يعبر عنها تعبيراً دقيقاً، أو لمجرد الرغبة في استخدام كلمات غريبة، أو الترفع عن المفردات التي لاكتها الألسنة كثيراً. وبكثرة الاستعمال تبعث هذه المفردات خلقاً جديداً، ويزول ما فيها من غرابة، وتندمج في المتداول المألوف. ولا يخفى ما لذلك من أثر في نهضة لغة الكتابة واتساع متنها وزيادة قدرتها على التعبير. وقد سار على هذه الوتيرة بمصر في العصر الحاضر كثير من الأدباء والعلماء والصحفيين، فردوا بذلك إلى اللغة العربية جزءاً كبيراً من ثروتها المفقودة، وكشفوا عن نواح من كنوزها المدفونة في أجداث المعجمات.
3-خلق الأدباء والعلماء لألفاظ جديدة. فكثيراً ما يلجئون إلى ذلك للتعبير عن أمور لا يجدون في مفردات اللغة المستعملة ولا في مفرداتها الداثرة ما يعبر عنها تعبيراً دقيقاً، وقد لا يضطرهم إلى ذلك إلا مجرد الرغبة في الإبداع، أو مجانبة الألفاظ المتداولة المألوفة، أو إبراز المعنى في صورة رائعة وتثبيته في الأذهان وتذليل سبل انتشاره بالإغراب في تسميته. وقد عم استخدام هذه الطريقة في الأمم الأوروبية منذ القرن التاسع عشر، وكثر التجاء الأدباء والعلماء إليها بنوع خاص في تسمية المستحدث من المخترعات الصناعية والمصطلحات العلمية والأحزاب والمبادئ السياسية والاجتماعية، وفي التعبير عن بعض معان دقيقة في عالم الأدب والفلسفة وعلم النفس والعلوم الطبيعية والطب والصيدلة.. وما إلى ذلك. وصبغ معظم هذه المصطلحات بصبغة دولية. فأقرته المؤتمرات والهيئات العلمية الممثلة لمختلف الأمم الغربية وعم استخدامها في لغاتها. وقد أجاز مجمع اللغة العربية الالتجاء إلى هذه الطريقة حيث تدعو إلى ذلك ضرورة، بأن لا يوجد في مفردات اللغة متداولها ومهجورها ما يعبر تعبيراً دقيقاً عن الاصطلاح المراد التعبير عنه.
ولا يخفى ما لهذه الوسيلة من أثر في نهضة لغة الكتابة، واتساع متنها ودقة مصطلحاتها، وزيادة مرونتها وقدرتها على التعبير. وقد ارتضى الأدباء والعلماء بعض قواعد عامة في وضع هذه الألفاظ ويستعينون عادة في تكوينها بالنحت والاشتقاق الأكبر ومزج كلمتين أو أكثر في كلمة واحدة، ويستمدون أصولها في اللغات الحية أو الميتة وخاصة اللاتينية واليونانية القديمة، وكثيراً ما يستعان في تكوينها بأكثر من لغة واحدة. ومن هذه المفردات ما يجمع بين لغتين (سوسيولوجيا) أي علم الاجتماع، فصدر الكلمة من أصل لاتيني معناه الجماعة؛ وعجزها من أصل يوناني معناه المقال أو البحث. ومنها ما هو مؤلف من ثلاث لغات مثل (بيسيكلت) أي الدراجة، فإن (بي) من أصل لاتيني يدل على التثنية، و(سيكل) من أصل يوناني معناه الدائرة، و(إت) علامة فرنسية للتصغير.
وقوام هذه المفردات هو التواضع والاصطلاح، ولذلك كثيراً ما تختلف معانيها اختلافاً يسيراً أو كبيراً عن معاني الأصول التي استمدت منها. ولا تبقى هذه الألفاظ جامدة على الحالة التي وضعت عليها، بل ينالها ما ينال غيرها من المفردات، وتخضع في تطورها الصوتي والدلالي لنفس القوانين العامة التي تخضع لها الألفاظ الأصلية. فبمجرد أن يقذف بها في التداول اللغوي وتتناقلها الألسنة، تفلت من إرادة مخترعيها وتخضع لنواميس الارتقاء العامة المسيطرة على ظواهر الصوت والدلالة، فاللفظ الموضوع أشبه شيء بحجر يقذف به القاذف في جهة معينة بقوة خاصة، فإنه بمجرد أن يفارق يده يخضع في سيره لقوانين ثابتة صارمة لا يد للقاذف ولا لغيره على تعطيلها أو وقف آثارها. ولذلك يختلف الآن النطق بالألفاظ الموضوعة ويختلف رسمها باختلاف الأمم واللغات. والأسلوب الصوتي الذي كانت تلفظ به منذ قرن أو قرنين مثلاً غير الأسلوب الصوتي الذي تلفظ الآن، وقد أخذ كثير منها عند جميع الكتاب أو عند بعضهم ينحرف في دلالته نفسها عن المعنى الذي وضع له في الأصل.
|