انتقال اللغة من السلف إلى الخلف - 1
د. محمد سعيد حسب النبي
أشار علي عبد الواحد وافي في كتابه اللغة والمجتمع إلى ظاهرة انتقال اللغة من السلف إلى الخلف؛ فأشار إلى أن الطفل يأخذ اللغة عن أبويه والمحيطين به بطريق المحاكاة والتعلم، فإن لغة الخلف في كل أمة تختلف عن لغة السلف في كثير من المظاهر. ويرجع بعض أسباب هذا التطور إلى أمور اجتماعية، ولكن طائفة غير يسيرة منها ترجع إلى أمور غير اجتماعية.
أولاً-العوامل الاجتماعية التي تؤثر في هذا التطور، فيرجع أهمها إلى أمرين:
أحدهما: النظم والتقاليد التي يسير عليها المجتمع في تلقين الأطفال اللغة في الأسرة وتعليمهم إياها في المدارس. فلا يخفى ما لهذه النظم من أثر بليغ في تطور اللغة في أثناء انتقالها من السلف إلى الخلف، وفي مبلغ اختلافها في كل جيل عن الجيل السابق له.
وغني عن البيان أن هذه النظم تترجم عن اتجاهات المجتمع وما يرمي إليه من أهداف في شؤون التربية والتعليم وإعداد النشء للحياة المستقبلية، فهي إذن أمور اجتماعية خالصة.
والآخر: كثرة استخدام الكبار في جيل ما لبعض المفردات في غير ما وضعت له عن طريق التوسع أو المجاز لدواع اجتماعية خاصة، فقد يكثر استخدام الكلمة لداع من هذه الدواعي في جيل ما في ناحية معينة من نواحي دلالتها أو في معنى مجازي تربطه بمعناها الأصلي بعض العلاقات، فيعلق المعنى الخاص أو المجازي وحده بأذهان الصغار، ويتحول بذلك مدلول الكلمة إلى هذا المعنى الجديد.
وقد أعطى وافي بعض الأمثلة على ذلك منها: كلمات الصلاة، والحج، والرث، والمدام، والنجعة، والمجد، والأفن، والوغى، والغفران، ومحل الأدب... فقد كانت هذه الكلمات تطلق في الأصل على الدعاء، والاتجاه، والخسيس من كل شيء، وكل ما سكن ودام، وطلب الغيث، وامتلاء بطن الدابة بالعلف، وقلة لبن الناقة، واختلاط الأصوات، والستر، وحيث يلزم الأدب.. ثم كثر استخدامها في عصر ما لدواع اجتماعية خاصة، في معنى فريضة الصلاة، وقصد البيت الحرام، والخسيس مما يلبس أو يفرش فحسب، والخمر، وطلب أي شيء، والعظمة، ونقص العقل، والحرب، والصفح، ومحل قضاء الحاجة.. فعلقت هذه المعاني المجازية وحدها بأذهان الصغار، وتحولت إليها مدلولات هذه الكلمات فأصبحت حقيقة فيها.
وإلى هذا العامل يرجع أهم الأسباب في تحول الكلمات إلى معان كانت مجازية في الأصل وفيما يعتري المدلولات في نطاقها من سعة أو ضيق. بل إن طائفة من العلماء على رأسهم Herzng قد رجعت إلى هذا العامل وحده كل ما يحدث من تطور في الدلالة.
فالدعائم التي يقوم عليها التطور اللغوي الناشئ عن هذين الأمرين وما إليهما لا تختلف في شيء عن الدعائم التي يعتمد عليها التطور الناشئ عن العوامل المشار إليها سابقاً، فكلا التطورين يرجع إلى ظواهر الاجتماع وتدعو إليه مقتضيات الحياة الاجتماعية. وكل ما بينهما من فرق أن التطور الناشئ عن هذين الأمرين يحدث في أثناء انتقال اللغة من السلف إلى الخلف، على حين أن التطور الناشئ عن العوامل المشار إليها سابقاً يعتور اللغة في مراحل أخرى من مراحل حياتها.
|