والعربية لأنها لغتنا
تقول الشاعرة اللبنانية الفرنكوفونية فينوس خوري غاتا في ديوانها "ليل القرّاص": "اليونانية لأنها الأصل..الآرامية لأنها لغة المسيح.. والفرنسية انتقاماً لجاندارك ونابوليون".في اليوم العالمي للغة العربيبة الذي كرسته الأمم المتحدة في الثامن عشر من ديسمبر، تغزو خاطري هذه الأبيات أشفعها بإضافة منّي. لا تُعدّ هذه الإضافة حشواً أو كلاماً زائداً، بل أعتقد أنها باتت تذكيراً لا بدّ منه في ظلّ تعاطينا الهزيل مع هذه اللغة، اللغة العربية، لغتنا.
اليوم، خلال صولاتي وجولاتي على الشبكة العنكبوتية، يستوقفني خبر مفاده أنّ اليونيسكو أصدرت بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية ملصقاً على شكل قلب فيه أكثر من 38 معنى لكلمة "حب" عند العرب. أتمعّن في الكلمات وأقرأ: الجزع، الحنين، الهيام، المخامر، العشق، الخلة، الوجد، الداء، الود، الدنف، الهوى، الوله، الغرام، الصبابة، اللوعة، الجنون، التتيم، الشوق، الشغف، الكلف، التبل، اللهف، العلاق، المقة، التدله، الرسيس... تربكني كل هذه المرادفات المتدرجة من أولى درجات الحب الى أقصاه، وأسأل نفسي: هذه اللغة الّتي منحتنا كل معاني الحب، بأي حب بادلناها؟
المقلق حقاً هو كمّ الاستهتار الذي ألحقناه باللغة العربية بدءاً من سنوات الدراسة الأولى. فالهجمة الواثقة للغة الانكليزية والتي كرستها انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وعولمة المعلومات والأخبار، هذه الهجمة تستلزم دفاعاً أكثر شراسة من جانب المناهج التربوية التي تعلم اللغة العربية المهددة اليوم بالاضمحلال. لغتي اليوم صارت متروكة، مهجورة، لا يرغبها إلا الأقلاء. يقال إن اللغة الإسبانية هي لغة الحب، وأنا أقول إن اللغة التي أعطت 28 مرادفاً للحب هي بعينها لغة الحب. لكن أبناءها اليوم لا يمدونها إلا بالقليل منه.
لغتي بأحرفها الجميلة تتلاشى. يشوّهونها بتلك الكتابة المهجّنة بحروف لاتينية ومقاطع صوتية عربية كانت تنتقل سابقاً بين شبابيك "الشات" في برنامج أم.أس.إن، واليوم تسري بيسر بين شبابيك الواتساب الفتوحة على مصراعيها. يختفي الحرف العربي ويحل مكانه الحرف اللاتيني ليعطي معنىً للعربية.
لغتي بقواعد سيبويه تتحطم. يكفيني أن أمرّ بالشارع وأنظر الى اليافطات الكثيرة المنتشرة التي تشيد بزعيم أو نائب أو وزير، فأقع دوماً على أخطاء إملائية ولغوية. يحيّرني هذا التواطؤ في ارتكاب الخطأ: بين مَن ألّف الجملة، ومن خطّ الجملة، ومن رفع اليافطة على الطريق. ألم يتنبه واحد منهم الى الخطأ؟ وإن تنبّه أحدهم للخطأ وتغاضى عنه فتلك مصيبة أكبر!
و"مثلما تكونوا يولّى عليكم" فخطباء المنابر ليسوا أقل فطنة باللغة. يتحفوننا بخطابات مضمونها مستفزّ ولغتها محتشدة بالأخطاء بالنحو والصرف والتشكيل. الخطابات السياسية في لبنان مناجم عجيبة للأخطاء باللغة العربية. من جهة أخرى، وبالرغم من كلّ الإجرام والوساخة والدموية والهنجعية التي يتسم بها النظام البعثي في سوريا، أحترم له الحفاظ على اللغة العربية وإيلاءها أهمية كبرى في المناهج الدراسية، فنادراً جداً ما تسمع سياسي بعثي أخطأ باللغة العربية. بالمقابل، الثقافة باللغة العربية والأدب العربي في سوريا لا تزل طليعية بالمقارنة مع كافة البلدان العربية الأخرى، تجدها منتشرة لدى عامّة الشعب من الأقل تعلماً الى حملة شهادات الدكتوراه. بهذه المناسبة أتذكر أصدقاء لي من سوريا أتبارى معهم فيتفوقون علي دائماً بوفرة اطلاعهم على الأدب العربي: حفظوا أبيات الشعر وحفظوا التاريخ العربي وحفظوا سور القرآن الكريم. ألم تكن أولى آيات هذه المعجزة اللغوية،"إقرأ"؟ حسناً، نحن العرب أهل القرآن وأمة القراءة نقف في ذيل الأمم القارئة ذلك أن متوسط معدل القراءة فيه لا يتعدى ربع صفحة للفرد سنوياً، بينما تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الأولى.
لغتنا العربية تحتل عالمياً "المرتبة الخامسة من حيث الانتشار والتداول" يقول أحد بيانات موقع ويكيبيديا. أندفع لأكتشف مرتبة اللغة الفرنسية فأستغرب حين يظهر أنها تتساوى مع اليابانية بالمرتبة العاشرة. والأرقام آيلة للتبدل إذا استمرّ استعمال اللغة العربية بالانحسار، وإذا ما استمررنا بإهمالنا لهذه اللغة في مدارسنا وبيوتنا ويومياتنا، وإذا ما استمررنا في تجنبنا لهذه اللغة حفاظاً على "برستيج" الحديث باللغة الانكليزية أو التجمّل بالفرنسية.
تقول لي رئيسة التحرير الاستاذة أمل حمزة أنها نادراً ما تقع على أخطاء لغوية في المقالات التي أرسلها لـ"البيان" رغم تخصصي باللغة الفرنسية. أسرّ اليوم لها ولكم أن حكايتي مع العربيّة شرح يطول بدأت منذ تفتحت عيناي على القراءة والكتابة، مثلاً: وقفت مرّة بين أخوتي الثلاثة وعمري لم يتجاوز الثلاث سنوات. كنت شديدة التعلق بالمصاصة، ربطها لي أهلي بحبل يتدلى من رقبتي، أتوسط أخوتي في أحد معارض الكتاب المحلية وفي يدي كتاب مستدير يشبه الصحن الطائر كُتِب عليه "الحروف المتحركة". لم أكن أنظر الى الكاميرا بل انشغلت بالحروف التي كانت تتحرك بين يدي أرمقها بفضول، والى جانبي إخوتي يتبسمون لزوم اللحظة. لغتي العربية كانت حبي الأول، ولا تزال حبيبتي بكل مرادفات الحب التي تحملها "وما الحب إلا للحبيب الأول!".
كل عام ولغتي العربية بخير..
البيان
|