
أسباب انحطاط اللغة العربية ومعوقات تقدمها في هذا العصر وكيفية الرقي بها؟
أ. صلاح عبد الستار الشهاوي
من المعروف بديهياً أن عناصر الحضارة والثقافة هي:
1- تصور وتصديق للذات وخارج الذات، ومدد الأنبياء والمرسلين عليهم السلام وكتب الله لتصحيح التصور والتصديق. (لم تنقطع بجزيرة العرب، وجاء أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليهم السلام فعمر خارج الجزيرة بالوحي، وسمى أمة محمد صلى الله عليه وسلم المسلمين ومهد لهم في جزيرة بواد غير ذي زرع، وتوالى المرسلون من ذريته عليهم الصلاة والسلام، فعمروا بالوحي المعصوم شرقنا العربي شميه وعراقيه، وورثنا في جزيرة العرب ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ثم بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بملة أبيه، وبشيء من شريعته وبشريعة مستقلة).
2- علم نظري في معارف كاللغة والتاريخ
3- علم عملي كالنظام والإدارة والسياسية والتشريع
4- علم مادي تجريبي في الأنفس
5- علم مادي تجريبي في الآفاق، وهو إما اكتشاف موجودات في البحر أو اليابسة أو الفضاء أو الأفلاك، وإما اكتشاف لبعض قوانين هذا الكون وبعض عناصره، وإما اختراع وصنع قائم على الكشفين المذكورين آنفاً وعلى ما أوجد الله في الطبيعة من تراب ونار وماء وهواء وحديد.. الخ، من عناصر الكون التفصيلية، وهو أيضاً قائم على مواهب خلقها الله من العقل والحس ومهارة الأنامل.
6- العبقرية، وهي الاستعداد البشري، وما كل البشر كذلك بل هم شعوب منهم الهمجي في الجملة لا في بعض الأفراد ومنهم الرعاة وأشباههم، ومنهم ذوو البلادة، ومنهم أهل العلم والمعرفة الذين أفردهم بعض المؤلفين بالتصنيف كالقاضي صاعد بن أحمد الأندلسي في كتابه – طبقات الأمم-
7- الزكاء – بالزاى- وهو التحلي بالفضائل التي تصون المعارف والحضارات، وتسخرها لمنافع البلاد والعباد.
والشخصية العربية بإرثها الحضاري تتمتع بهذه المقومات التي يمكن إن أرادت مخلصة أن تعود إلى ركب الحضارة الحديثة.
".. إن العرب والمسلمين يمكن أن يعودوا إلى عظمتهم الماضية، وإلى زعامة العالم السياسية والعلمية، كما كانوا من قبل، لو أنهم عادوا إلي فهم حقيقة الحياة في الإسلام والعلوم التي حث الإسلام على الأخذ بها".( مؤرخ العلم: جورج سارتون. في كتابه - الشرق الأوسط في مؤلفات الأمريكيين)
ومن المسلم به أن الحضارة دائمة التنقل وهي مشاع بين الناس لا يحتفظ بها إلا الأقوى والأجدر فإذا ما أصابه الوهن أو انتابه الضعف ولت سراعا ومن ثم يختفي المشروع الحضاري.
وعندما يغيب المشروع الحضاري لأمة من الأمم، تتحول الأمة إلى ساحات مهيأة لمشاريع صغيرة على اختلاف منطلقاتها، وأهدافها ، تشبه جزراً معزولة لا يربطها جسر، يجعلها أرخبيلاً منصهراً ومتناغماً. هذه المشاريع، التي غالباً ما تبتعد عن الانشغال بمصالح الجموع، منحازة إلى مكاسب فئوية محددة، مجرد منازع استهلاكية نفعية، تتجلى فيما يمكننا تسميته بثقافة القشور أو بدقة أكثر ثقافة Take away، وذلك في مقابل ثقافة - فكر وتأمل واشعر بالآخرين-.
ومن المعروف، وبالكثير من المصارحة، أن موجة من فقدان المناعة الحضارية بدأت تتسلل إلى عدة زوايا من الجسد العربي ليس فقط نتيجة لثقافة المؤامرة، وهو مالا يمكننا تجاهله، ولكن، أيضاً، وبالتوازي، مع التغييب المريب لمشروع فكري حضاري متميز، قادر على إنجاز مهمتين أساسيتين متداخلتين، وهما: الحفاظ على الخصوصية الروحية والمادية لأمتنا بالتعرف الدارس الواعي لتراث هذه الأمة، والتعامل الندي والمتكافئ مع ثقافات العالم وتجاربه الحضارية شرقاً وغرباً، في انفتاح علمي ممنهج ومدروس، يكفل لنا التعاطي الصحيح مع المنجز الآخر، وخاصة فيما يتعلق بالتنشئة التربوية والثقافية والاجتماعية والإبداعية لأطفالنا وناشئتنا وشبابنا والذين سيكون عليهم، لاحقاً، النهوض بواجباتهم بين أقرانهم من العالم للمشاركة بصياغة حضارات تتحاور على قدم المساواة.
فمن الثابت علميا أيضا أن العرب حملوا أنوار الإسلام إلى الدنيا ورفعوا لواء الحضارة والعلم والمعرفة قرابة قرون ثمانية فيما بين الأندلس غربا وبلاد السند شرقا وتركوا للمعرفة الإنسانية تراثا لم تتركه امة قبلهم ولا بعدهم ولا جدال أننا في حاجة اليوم إلى إحياء تراث العروبة الإسلامي في العلم والأدب والفن والشعر وجميع مناحي الحياة.
فعندما أقبل العرب على علوم الأمم بذكائهم وزكائهم معاً كانوا ذوي انتقاء حصيف لصحة التصور والتصديق، فرفضوا وثنية الأدب اليوناني وأساطير الآلهة، وترجموا كل علم ضروري ونافع، وكل علم مباح لا شبهة في إباحته وكل علم اختلف في إباحته، ثم صححوا وأضافوا وشذبوا وهذبوا ثم ابتكروا، فظهرت لهم حضارات في الصناعات والاختراع يشهد بها موروثهم المادي، وكان لهم اكتشاف لموجودات وقوانين وعناصر ( فأعفي العرب بتراثهم الحضاري والعلمي من مئات التجارب الفاشلة، واحتضنوا العلم البشري من الطفولة وسلموه للغربيين وهو في الأشد)، فالعرب وحدهم عرفوا المنهجية العلمية والتقنية التي ارتكز عليهما علماء أوروبا بعد عصر النهضة. فعلى سبيل المثال كانت معلومات الجغرافي الفلكي الفذّ - عبدالله البكري القرطبي- هي الأسس التي بني عليها - كريستوفر كولمبس- رحلاته واكتشافاته ولنسأل أنفسنا: من منّا يعرف -أبا عبيد عبدالله البكري القرطبي- أكثر من -كولمبس -، وقد كان ابن حضارتنا المتكاملة التي تركناها في الأندلس؟!!.
كل ذلك بفضل علماء العرب الذين قادوا مسيرة العلم الإنساني في عصر النهضة العربية – العصر العباسي–
وهذا المقال ليس دعوة إلى التقوقع في حيز الماضي والركون إلى ما تحقق فيه من إنجازات حضارية وأمجاد علمية فهذا في الواقع ابعد ما يكون عن الهدف من كتابنا لأننا ندرك جيدا أن الحضارة الحديثة والإنجازات العلمية المعاصرة قد تجاوزت - بارتفاعات فلكية - كل نقاط الأوج الحضاري التي بلغتها امتنا في الماضي وعلى نحو يجعل من فكرة البدء من حيث انتهى الأجداد مضيعة للوقت إذ لا سبيل أمامنا سوى البدء من أخر محطة بلغها قطار الحضارة.
وكانت اللغة العربية هي لغة العلم والبحث. وقد تمت إنجازات العلم العربي على أيدي أناس اهتموا بالعلم اليوناني ودرسوه لا كتلامذة بل كباحثين، فأبدعوا الكثير في ميادين علم ذلك الزمان. ففي الرياضيات - على سبيل المثال - أخذوا بنظرية الأعداد مما وجدوه عند اقليدس ووضعوا - انطلاقاً من ذلك- نظرية جديدة عن - الأعداد المتحابة- ثم أبدعوا نظرية أخرى في دراسة - قواسم الأعداد - التي كانت أول دراسة في هذا الموضوع. ودرسوا أيضاً أول تابعين - دالتين- في نظرية الأعداد. ويعتبر العلماء اليوم أن ذلك كان تطويراً كبيراً لما جاء به علماء اليونان. ومثال آخر في نظرية الأعداد هو التحليل اللامحدود. فقد طوروه وتوصلوا- نتيجة الأبحاث - إلى وضع التحليل الذي يعمل الأعداد الصحيحة الموجبة. ثم وضعوا ما يُسمى - التحليل الديوفنطسى الجديد - الذي اعتمده فيما بعد - فرما Ferma- في القرن السابع عشر، من دون أن يذكر العلماء العرب والعلم العربي.
وفي دراسة المساحات والجسوم فإن - ثابت بن قرة، والحسن بن الهيثم - قد وصلا في هذا الميدان إلى نتائج مهمة اُعتمدت كلها لدى علماء الغرب من خلال كتابي (المجسم المكافئ، وحساب الكامل) فلا يمكن في حال من الأحوال فهم كتابي (مناظر رزنر) من القرن السادس عشر ولا (مناظر كلبر) من دون كتاب ابن الهيثم السابق الذكر.
والأمثلة كثيرة، وهى تشمل فروع العلم المختلفة.
*أسباب انحطاط اللغة العربية ومعوقات تقدمها في هذا العصر وكيفية الرقي بها؟.
بدأ التراجع العلمي العربي حوالي العام 1110م بعد قرنين ونصف من قمة الازدهار. ولا أحد يمكنه الإجابة عن هذا السؤال (لماذا جف نبع الإبداع العلمي العربي؟) بيقين. كانت هناك بالطبع أسباب خارجية، كالدمار الذي سببه الغزو المغولي. والحقيقة أن هذا الانحطاط للعلوم الحيَّة في المجتمع العربي والإسلامي بدأ قبل ذلك بكثير. ويتعلق هذا بأسباب داخلية، أولها الانغلاق على الذات وعزلة النشاط العلمي. أما الثاني فهو الهجوم الذي قيد الحياة ضد كل تجديد ووصَم نهاية القرن الحادي عشر وبداية القرن الثاني عشر - بداية الانحطاط- بنزاع ديني طائفي شديد، سببته دواع سياسية. يصف ذلك الإمام الغزالي الذي كتب نحو العام 1100م يقول: "جريمة خطيرة ارتكبت في الحقيقة ضد الدين على يد رجل يعتقد أنه يدافع عن الإسلام برفضه للعلوم الرياضية، في أن حين أن شيئاً من هذه العلوم لا يعارض حقيقة الدين".
وهذا خلاف ما حث عليه الإسلام من التفكير في قوانين الطبيعة، مع أمثلة من الكوزمولوجيا - علم تطور الكون- ومن الفيزياء، ومن البيولوجيا، ومن الطب، وهى علامات لكل البشر، قال تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت، وإلى السماء كيف رُفعت، وإلى الجبال كيف نُصبت، وإلى الأرض كيف سُطحت)(الغاشية: 17-20)
كما قال تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب)( آل عمران: 189)
كما يحث القران الكريم المؤمنين في 750 آية - حوالي ثُمن القرآن- بدراسة الطبيعة، بالتفكير، ويحثهم على استخدام العقل في صورة مُثلى في بحثهم عن المطلق، وأن يجعلوا من اكتساب المعرفة ومن الفهم العلمي معاً عنصراً من الحياة المشتركة.
إن السبب الذي دفع العرب و المسلمين للبحث عن العلوم المتقدمة في عصرهم الذهبي، ليس صعب التحديد، كان العرب والمسلمين يتبعون وصايا كتابهم السماوي ووصايا نبيهم، فحين يؤكد القرآن الكريم، على ترفّع العالم، وهو الرجل الذي يمسك العلم والمعرفة: (قلْ هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(الزمر: 9)
وشدد النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقة أن البحث عن المعرفة وعن العلم هو واجب على كل مسلم، ومسلمة. و "إنما العلماء ورثة الأنبياء".
وبعد حوالي مائة سنة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. أملى المسلمون على ذاتهم واجب التمكن من علوم عصرهم، وأسسوا معاهد دراسات عليا - بيت الحكمة- وحازوا في ميدان العلوم على تفوق مطلق، حافظوا عليه خلال ثلاثة قرون ونصف القرن بفضل دعم ورعاية شخصيات ذات مناصب رفيعة بقي بفضلها مشعل العلم متقداً، بفضل الرعاية العلمية. فيجب أن يشعر طالب العلم بالأمان والاستقرار أثناء تأدية عمله. هذه الرعاية التي تتمثل اليوم في المؤسسات العلمية - الجامعية والبحثية - التي تتبع الجامعات.
فأثمر عن العصر الذهبي للعلوم العربية والإسلامية - حوالي العام ألف ميلادي- العصر الذي عاش فيه - ابن سينا- (980-1037م) الممثل الأخير للفكر في القرون الوسطى، ومعاصراه -ابن الهيثم -( 965- 1039م) و- البيروني -( 973-1048م) ومع بداية القرن التالي تحولت روح العصر عن العلوم المبدعة في صالح التصوف المغلوط الذي يتميز بالتجرد عن أغراض عالمنا الدنيوية، أو لصالح تقليد متصلب يتميز بنقص في التسامح (التقليد) إزاء التجديد (الاجتهاد) في كل ميادين المعرفة بما فيها العلوم. فبعد أن كان أسماء العلماء العرب تملأ فضاء العلم العالمي أمثال جابر بن حيان، والخوارزمي، والرازي، والمسعودي و البيروني، وابن سينا، وابن الهيثم، وعمر الخيام، وابن رشد، وناصر الدين، وابن النفيس، والبتاني، وابن فرناس. بدأنا نطالع أسماء جيرارد كريمونا، وروجر بيكون، وميكائيل الأستكلندي. الذين غادروا من موطنهم متوجهين جنوبا إلى الأندلس ليلموا بعلوم العرب في مدينة- توليدو - ثم منها إلى مدينة - ساليرنو- في صقلية للإطلاع عن مصنفات العرب العلمية ونقلها إلى اللاتينية. وإتاحتها للغرب الذي قام بتطبيقها ومن ثم اعتمادها للبحث العلمي الأساسي. الذي قاد الثورة الصناعة في الغرب.
وعلى الجانب العربي طالعنا - ما كتبة ابن خلدون في مقدمة تاريخه الاجتماعي: "تزدهر العلوم الفلسفية، في عالم الفرنجة وعلى الشواطئ الشمالية للمتوسط - وإن الله وحده يعرف ما هو موجود هناك- ". ويضيف: "إن مشكلات الفيزياء لا تهمنا في مسائلنا الدينية، لذلك علينا أن نتركها جانباً". ولا يبدي ابن خلدون أي فضول أو رغبة في معرفة هذا العلم. وهذا الموقف اللامبالي الذي أدى إلى الانعزال. ليس موقف ابن خلدون وحده إنما موقف عصره الذي تناسي دعوة الفيلسوف العربي -الكندي- الذي كتب في أوجه زهو العرب العلمي قائلاً: "يحدر بنا ألاّ نخجل من الاعتراف بالحقيقة، وأن نسعى إليها من أية مصادر أتت. وبالنسبة إلى الذي يتوق إلى الحقيقة ليس هناك من قيمة أعلى من الحقيقة في ذاتها. والسعي إليها لا ينقص من قدره ولا بذلّه".
والكندي على حق، فالحقيقة هي الحقيقة أنَّى تمّ اكتشافها. والبعد عنها هو النتيجة التي وصل إليها حال العلم العربي اليوم.
وعلى الجملة: يرجع الجمود الذي أصاب الحركة الفكرية في بلاد العرب والعالم الإسلامي من بعد القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي- والذي امتد إلي القرن الثامن عشر إلي ثلاث عوامل:
-الأول:
اعتقاد علماء المسلمين في العصور المتأخرة بأن العلوم قد تم وضع قواعدها من قبل، وليس في إمكانهم أن يأتوا بجديد فيها، بقول الشيخ – أحمد الملوي – ت: 1181هـ 1767م في شرحه الكبير علي السمرقندية في علم البلاغة" إنه ليس لمؤلفي المتأخرين مع المتقدمين إلا حسن السبك لكلامهم وزيادات وتحقيقات يأخذونها من فحوي نظامهم".
-الثاني:
انتشار روح التقليد التي سرت في المذهب السني في ذلك الوقت والتي قاومت أية محاولة للابتكار والتجديد، واعتبارها محاولة لهدم ما بناه الأولون. واتهام كل من خرج عن هذا الطريق ولو قليلا بالإلحاد والزندقة وهكذا قُفل باب الاجتهاد وضعفت روح الابتكار، وحل محلها التقليد والمحاكاة. وقد عبر الشيخ –أحمد الجوهري- ت:1181هـ /1767م لأحد علماء القرن الثامن عشر المشهورين عن ذلك فقال: "اعلم بأن من يأتي منه العلم النافع والصواب أن الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين في غالية الرفعة والمكانة والقرب من رب العالمين. وإن كل واحد منهم علي نور من ربه وخالقه، وأن تقليد أى واحد منهم يرضاه الله ورسوله وإن فعله كل واحد عند الله عظيم، فكل من قلد واحدا منهم فهو على نور من ربه،لا شك في هذا إلا كل من ابتلاه الله بالمقت والخزي من رب العالمين".
-الثالث:
ما انتشر بين المسلمين من عصبية حادة مذهبية وطائفية كالخلاف بين الفقهاء والصوفية، وبين السنة والمعتزلة، وبين السنة والشيعة، والخلاف بين المذاهب الأربعة، وبدلا من أن تؤدي هذه الخلافات إلي النتيجة الحتمية لها، وهي ظهور نهضة فكرية، فإنها قد أدت إلي عواقب وخيمة علي الحركة الفكرية، لأن هذه الخلافات لم تجر في جو يسوده العدل والحرية، وإنما كان طابعها هو الاعتساف والتنكيل بالخصوم. كما حدث في مشكلة خلق القرآن، والقضاء علي المعتزلة، وقتل الحلاج، ونفي ابن رشد، فحرم الفكر الإسلامي من ثروة فكرية كبيرة، لو أتيح لها التعبير عن نفسها، لكان من المحتمل أن تتغير مسيرة الحركة الفكرية الإسلامية التي اتجهت إلي الهبوط والانحدار من بعد القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي- الذي يعتبر نهاية عصر ازدهار الفكر الإسلامي.
وإذا أردنا النهوض من تلك الكبوة العلمية الحاضرة فإن علينا أولاً البحث في التراث العربي الذي سوف يعطينا أبحاثاً لغوية علمية عربية يمكن الإفادة منها في تأسيس بنية تحتية علمية ذات معايير عالمية في التفكير والصياغة لفهم الأصول اللغوية والمفردات وإدخال العقلية العلمية عند الشباب والدارسين بشكل العام. فعندما نؤرخ للعلم العربي فإننا ندرس في شكل أو آخر عملية الإبداع العلمي وأسبابه، وكذلك أسباب عدم الإبداع العلمي، وأيضاً صلة الإبداع العلمي بتدريس العلوم ونشرها. وهذا يهم على وجه الخصوص الأمة العربية التي -مع الأسف- لا تساهم حالياً بصورة جذرية في الخلق والإبداع العلمي.
* كيفية النهوض بالعلم العربي الذي وعائه اللغة العربية حتى ننهض بها؟.
أما إذا أردنا أن نعرف عراقيل التواصل العلمي العصري اليوم لعلمنا أن التربية المثبطة للإبداع وإهمال المبدعين في البيت والمدرسة سمة ظاهرة في المجتمعات العربية يبدأ منذ الطفولة.
فهناك عراقيل شخصية، وعراقيل عائلية، والعراقيل المؤسسية، والعراقيل الاجتماعية، والعراقيل المدرسية، ولعل أهم هذه العراقيل المدرسية، لأنها المؤسسة المختصة التي تتولى أمر التربية العلمية. وباختصار يمكن سرد مجموعة كبيرة من العوامل في هذا المجال:
- عدم توفير التربية الابتكارية
- عدم تخصيص الوقت الكافي للابتكار
- التركيز في الدارسة على الأهداف الذهنية الواطئة من دون الأهداف الذهنية العليا
- إهمال الأهداف الإبتكارية الوجدانية و النفسية الحركية
- المناهج الدراسية الجامدة والمثقلة التي لا تخرج عن إطار مرسوم معروف من ذي قبل مهما كان الأمر
- استخدام الكتاب الواحد في التدريس وإهمال المصادر الموجودة
- المناهج المثقلة كثيراً وبقوانين انضباطية صارمة والتربية المتركزة على المعلم
- الاكتفاء باستخدام الطرائق الجماعية والاستغناء عن الطرائق الفردية
- شحة استخدام الوسائل التعليمية
- فقدان الجو الديمقراطي في التدريس
- إهمال الفروق الفردية بين الطلاب
- التقويم ذو الاتجاه الواحد
- المعلم المتسلط
- الطالب المفتقد الدافعية العالية في تعلم العلم
- المدارس التي تتولى أمر الارتقاء بالتعليم والعلم والتي لا ترقى في السباق نحو التطوير والتنمية الدائمة للحاق بركب التقدم والعلم الحضاري
- مؤسسات المجتمع التي تخلت عن دورها المنوط بها للارتقاء بالمجتمعات من خلال دعم العلم وتوجهت إلى مؤسسات خدمية غير مجدية
- بعض الترجمات العلمية الحديثة أغلبها مفتعل ولغتها لا تليق باللغة العلمية، ولا تساعد على فهم المجهود العلمي وصياغة.
*يقول عباس محمود العقاد في كتابه -أثر العرب في الحضارة الأوربية-: "إن موقف العالم العربي اليوم أنه المرقف الذي يطيب فيه النظر إلى الغد، كما يطيب فيه النظر إلى الأمس، فلا يفرد فيه الفخر بالآباء دون الأمل في الأبناء".
وفي الختام:
يقول أفلاطون: "إن المعرفة تأخذ من الإنسان أكثر مما تعطي".
وطريق المعرفة والعلم واحد هو طريق التأصيل للبحث في كل الميادين، بما فيها تاريخ العلوم، وتوفير البحث الأصيل والمؤسسات للقيام به وإعطائه الإمكانات والوسائل الكافية. وهذه الخيارات سياسية أيضاً وليست علمية فقط.
*وختاما:
اللغة العربية دين في اعناقنا ومسؤولية حملها التاريخ لنا، وأمانة وضعت وديعة بين أيدينا، لنحافظ عليها ولنسلمها إلى الأجيال القادمة بعدنا، وهي مرفوعة الراية، مكفولة الكرامة، مشرئبة الهامة، يلهج بذكرها القاصي والداني. ولو قدر لهذه الراية الخفاقة – لا قدر الله – أن تسقط لسقطنا معها وهوينا إلى الدرك الأسفل، ولهانت علينا أوطاننا، ولضاعت منا رموز هويتنا وصولجان عزتنا وكرامتنا.
|