|
|
انتقال اللغة من السلف إلى الخلف - 5
د. محمد سعيد حسب النبي
أشرنا في مقال سابق إلى اختلاف الشعوب بعضها عن بعض في خواصها الوراثية المتعلقة بأعضاء النطق، وأن الطفل يستطيع أن يكتسب في طفولته عدة لغات أجنبية إذا أتيحت له فرصة الاختلاط بمتكلميها، ولكن ومع تقدم السن تفقد أعضاء النطق مرونتها، وتسلك في تطورها منهجاً خاصاً يختلف عن المنهج الذي تسكله أعضاء النطق في الشعوب الأخرى. ولا يخفى –كما يشير وافي- ما يترتب على اختلاف الشعوب بهذا الصدد من آثار خطيرة في التطور الصوتي في مختلف اللغات. فإلى هذا يرجع بعض السبب في اختلاف اللغة الواحدة في تطورها الصوتي باختلاف الشعوب الناطقة بها، وذلك أنها تسلك في تطورها الصوتي عند كل شعب منها مسلكاً يتفق مع ما فطرت عليه أعضاء نطقه في طبيعتها واستعدادها ومنهج ارتقائها.
ويرى علي عبد الواحد وافي أن اللاتينية مثلاً قد سلكت في تطورها الصوتي عند كل شعب من الشعوب الناطقة بها مسلكاً يختلف عن مسلكها في الشعوب الأخرى؛ فلم تلبث أن انشعبت من جراء ذلك إلى عدة لغات (الفرنسية، الإيطالية، الإسبانية، البرتغالية، لغة رومانيا..إلخ). واللغة العربية قد اتجهت كذلك في تطورها الصوتي عند كل شعب من الشعوب الناطقة بها وجهة تختلف عن وجهتها عند غيره؛ فلم تلبث أن تولد عنها من جراء ذلك عدة لهجات (عامية العراق، عامية الشام، عامية نجد والحجاز، عامية اليمن، عامية مصر، عامية المغرب.. إلخ). حقاً إن كثيراً من مظاهر هذا الاختلاف يرجع إلى عوامل اجتماعية أو نفسية أو آثار البيئة الجغرافية، ولكن ليس من شك في أن بعض هذه المظاهر يرجع إلى العامل الشعبي الذي أشار إليه وافي في كتابه اللغة والمجتمع.
وعلى هذا العامل –أي العامل الشعبي- يقع قسط كبير من التبعية فيما يصيب اللغة من تحريف في أصواتها حينما تنتقل من شعب إلى شعب آخر، وذلك أنها تتشكل عند الشعب المنتقلة إليه في الصورة التي تتفق مع ما فطرت عليه أعضاء نطقه وتكونها واستعدادها، فتبعد بذلك عن أصولها الأولى، ويزداد بعدها هذا كلما اتسعت مسافة الخلف بين أصول الشعبين. فما أصاب لغة الصقالبة من تحريف في ألسنة البلغاريين يفوق كثيراً ما أصابها عند غيرهم؛ وذلك لأن الأصل الفيني Finois –كما يرى وافي- الذي ينحدر منه البلغاريون لا تربطه صلة قريبة بالأصل السلافي الذي ينتمي إليه الصقالبة. ويورد وافي نماذج عدة على ذلك منها ما أصاب الأصوات اللاتينية من تحريف في اللغة الفرنسية يفوق كثيراً ما أصابها في اللغة الإيطالية؛ وذلك لأن الإيطاليين أقرب رحماً إلى قدماء الرومان من الفرنسيين، ففيهم يغلب الدم اللاتيني، بينما يغلب على الفرنسيين الدم السلتي والجرماني، ولهجات القسم الجنوبي من فرنسا كالجسكونية والبروفنسية..إلخ أقرب إلى أصولها اللاتينية من لهجات القسم الشمالي، وذلك أن الدم اللاتيني في سكان الجنوب أغزر منه في سكان الشمال، ولهجات الجنوب نفسها تختلف في مبلغ قربها إلى اللغة اللاتينية تبعاً لاختلاف الناطقين بها في مبلغ قربهم إلى الأصل اللاتيني. ولذلك كانت البروفنسية أقرب إلى اللاتينية من الجسكونية لأن البروفنسيين أدنى إلى اللاتين من الجسكونيين. ولهجات القبائل العربية النازحة إلى مصر (البراعصة، والفوايد، الرماح، الجوازي، أولاد علي، سمالوس..إلخ) أدنى في ناحيتها الصوتية إلى العربية الفصحى من لهجات المصريين أنفسهم، وذلك لأنهم أقرب إلى العرب من المصريين.
وعلى ضوء هذا العامل يمكن كذلك قياس مسافة الخلف بين اللهجات المحلية (وهي اللهجات التي يتكلم بها في منطقة لغوية واحدة كلهجات البلاد المصرية) والوقوف على بعض الأسباب التي تؤدي إلى بعدها بعضها عن بعض. فالمشاهد أن مبلغ اختلاف هذه اللهجات بعضها عن بعض في أصواتها يتبع إلى حد كبير مبلغ اختلاف الناطقين بها بعضهم عن بعض في أصولهم الشعبية. فكلما كان هؤلاء متجانسين في أصولهم ضاقت مسافة الخالف بين لهجاتهم في ناحيتها الصوتية، وكلما تعددت الأصول الشعبية التي ينتمون إليها اتسعت هذه المسافة. فلهجات المصريين لا تختلف كثيراً بعضها عن بعض في هذه الناحية؛ وذلك لتجانسهم في الأصول التي انحدروا منها. ولهجات المنطقة الشمالية بفرنسا (منطقة باريس وما إليها) –كما اورد وافي- تختلف كثيراً عن لهجات المنطقة الجنوبية منها (طولون، نيس..إلخ)، ولكن كلتا المنطقتين تحوي مجموعة متشابهة من اللهجات، وذلك لأن سكان المنطقة الشمالية يختلفون في أصولهم الشعبية عن سكان المنطقة الجنوبية، ولكن كلتا المنطقتين تضم من السكان مجموعة متجانسة في هذه الأصول، ولهجات المناطق الوسطى بفرنسا يختلف بعضها عن بعض اختلافاً غير يسير، وذلك لتعدد الأصول الشعبية التي ينتمي إليها سكان هذه المناطق.
|
|
|
|
|