صراع اللغات - 4
د. محمد سعيد حسب النبي
سنعرض في هذا المقال أحد العوامل المهمة في الصراع اللغوي، وذلك في حالة تجاور شعبين مختلفي اللغة، فقد يتيح تجاور شعبين مختلفي اللغة فرصاً كثيرة لاحتكاك لغتيهما؛ فتشتبكان في صراع ينتهي إلى واحدة من النتيجتين نفسيهما اللتين ينتهي إليهما الصراع كما قلنا في مقالات سابقة: فأحياناً تنتصر إحدى اللغتين على الأخرى وتحتل مناطقها، فتصبح لغة مشتركة بين الشعبين؛ وأحياناً لا تقوى واحدة منهما على الأخرى فتعيشان معاً جنباً إلى جنب.
ومن الحالات التي يحدث فيها تغلب إحدى اللغتين على الأخرى؛ فتحدث النتيجة الأولى وهي تغلب إحدى اللغتين على الأخرى وذلك في حالتين كما أشار علي وافي في كتابه اللغة والمجتمع:
الحالة الأولى: إذا كانت نسبة النمو في أحد الشعبين كبيرة لدرجة يتكاثف فيها ساكنوه، وتضيق مساحته بهم ذرعاً؛ فيشتد ضغطه على حدود الشعب المجاور له، وتكثر الهجرات المؤقتة، وانتقالات العمال الصناعيين والزراعيين في مواسم معينة، وتكثر تبعاً لذلك عوامل الاحتكاك والتنازع بين اللغتين. وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب الكثيف السكان على لغة المناطق المجاورة له؛ شريطة ألا يقل عن أهلها في حضارته وثقافته وآداب لغته، ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى من أهلها في هذه الأمور. ومن أمثلة ذلك في التاريخ كثيرة، وأكثرها دلالة بهذا الصدد ما كان من أمر اللغة الألمانية –كما يقول وافي- فقد طغت على مساحة واسعة من المناطق المجاورة لألمانيا بأوروبا الوسطى (سويسرا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والنمسا...) وقضت على لهاجاتها الأولى.
والحالة الأخرى: إذا تغلغل نفوذ أحد الشعبين في الشعب المجاور له. وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب القوي النفوذ؛ شريطة ألا يقل عن الشعب الآخر في حضارته وثقافته وآداب لغته، ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى منه في هذه الأمور. والأمثلة على ذلك كثيرة من التاريخ، فيشير وافي إلى اللغة الفرنسية والتي تغلبت على لهجات المناطق المجاورة لها ببلجيكا وسويسرا؛ فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لجميع سكان "والونيا" ببلجيكا من سكان سويسرا. واللغة الإيطالية قد تغلبت على لهجات المناطق المجاورة لها بسويسرا، فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لعدد من سكان الجمهورية.
وعلى هذا الأساس نفسه تتغلب في الدولة الواحدة لغة المقاطعة التي تكون بها العاصمة أو يكون لأهلها السلطان والنفوذ. فلغة الباسك قد أخذت تنهزم أمام اللغة الفرنسية في المناطق التي تغلغل فيها نفوذ الفرنسيين وأمام اللغة الإسبانية في المناطق التي تغلغل فيها نفوذ الإسبانيين، حتى كادت تنقرض في كلتيهما. واللهجات السلتية التي كان يتكلم بها معظم السكان بإيرلندا وويلز واسكتلندا قد أخذت تنهزم أمام اللغة الإنجليزية منذ أن تغلغل نفوذ إنجلترا في هذه البلاد، حتى زالت من لغة الأدب والكتابة، وكادت تنقرض انقراضاً تاماً من لغة الحديث، وهكذا كان مصير اللهجة السلتية التي بقيت بمقاطعة البريتون (في القسم الغربي من فرنسا) –كما أشار وافي- فقد أخذت تنهزم أمام اللغة الفرنسية منذ أن تغلغل نفوذ فرنسا في هذه المقاطعة، حتى لم يبق لها إلا آثار ضئيلة في لغة الحديث بين الأميين من الشيوخ.
ولوقوع عاصمة بلجيكا (بروكسل) في مقاطعة "والونيا" ذات اللسان الفرنسي –كما يرى وافي- ولأن سكان هذه المقاطعة يتمتعون بقسط كبير من النفوذ والسلطان في هذه الدولة، أخذت اللغة الفرنسية تتغلب على الفلامندية (لغة القسم الشمالي من بلجيكا المسمى "فلاندرز" وتنتقصها من أطرافها. ولوقوع عاصمة سويسرا (برن) في القسم الناطق بالألمانية، ولأن سكان هذا القسم يتمتعون بأكبر قسط من النفوذ والسلطان وتتألف منهم الأغلبية الساحقة (يتكلم الألمانية في سويسرا نسبة كبيرة من الشعب) وأخذت اللغة الألمانية تطغى على ألسنة الناطقين بالفرنسية من السويسريين.
وقد أخذت لغة قريش قبيل الإسلام تتغلب على اللغات المضرية الأخرى، لما كانت تتمتع به من سلطان أدبي، ويستأثر به أهلها من نفوذ ديني وسياسي. واللغة العربية العامية في السودان الشمالي أخذت تطغى على ألسنة أهل السودان الجنوبي، حتى لقد أصبحت لهجة المحادثة المشركة بين قبائلهم المختلفة اللهجات. ويسمون هذه اللهجة "عربية جوبا" لانتشارها على الأخص في منطقة جنوب السودان.
وفي كلتا الحالتين السابقتين لا يتم النصر غالباً لإحدى اللغتين إلا بعد أمد طويل يبلغ أحياناً بضعة قرون. فقد أخذت لغة قريش تطغى على اللغات المضرية الأخرى منذ العصر الجاهلي؛ ومع ذلك ظلت هذه اللغات حية في كثير من المواطن إلى أواخر العصر العباسي.
|