للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

صراع اللغات - 5

د. محمد سعيد حسب النبي


غني عن البيان أن أي انتصار لا يتم إلا بعد أمد طويل لا يخرج المنتصر من معاركه على الحالة التي كان عليها من قبل. فاللغة التي يتم لها الغلب لا تخرج سليمة من هذا الصراع، بل إن طول احتكاكها باللغة الأخرى يجعلها تتأثر بها في بعض مظاهرها وبخاصة في مفرداتها، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مقالات سابقة. غير أن تجرد العامل الذي نحن بصدد الكلام عنه من عنف النزاع وشدة المقاومة، وحدوث نتائجه في صورة سلمية متدرجة بطيئة، كل ذلك يعمل على وقاية اللغة الغالبة ويخفف من مبلغ تأثرها باللغة المغلوبة.

والألفاظ الأصيلة للغة الغالبة ينالها بعض التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بها (المغلوبين لغوياً)، فتختلف بعض الاختلاف في أصواتها ودلالاتها وأساليب نطقها في صورتها الأولى.
والكلمات الدخيلة التي تقتبسها اللغة الغالبة من اللغة المغلوبة ينالها كذلك بعض التحريف في حروفها ومعانيها وأساليب نطقها، فتبعد في جميع هذه النواحي عن شكلها القديم.
وتقطع اللغة المغلوبة في سبيل انقراضها المراحل نفسها التي أشرنا إليها في مقالات سابقة؛ فينفذ الانحلال أولاً إلى مفرداتها، ثم إلى أصواتها ومخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات، ويتم الإجهاز عليها بالقضاء على قواعدها.
وهناك حالات لا تقوى فيها إحدى اللغتين على التغلب، وهي نتيجة يحدث فيها أن تتجاور لغتان ولا يتغلب أحدهما على الآخر ويبقيان جنباً إلى جنب، ويدخل في هذا الباب معظم العلاقات بين اللغات المتجاورة في العصر الحاضر. وقد أشار علي وافي في كتابه اللغة والمجتمع إلى الجوار بين فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال لم يؤد إلى تغلب لغة شعب منها على لغة شعب آخر، لأن احتكاك لغاتها لا ينطبق على حالة من الحالتين السابقتين اللتين يحدث فيهما التغلب بالمجاورة-كما سبق وأشرنا في مقالات سابقة.
ولهذا السبب نفسه لم يؤد الجوار بين الفارسية والعراقية والتركية والأفغانية إلى تغلب لغة منها على الأخرى. وكذلك شأن الإنجليزية في الولايات المتحدة بأمريكا الشمالية مع الإسبانية المجاورة لها في المكسيك؛ وشأن البرتغالية التي يتكلم بها في البرازيل مع الإسبانية التي يتكلم بها في الجمهوريات المتاخمة للبرازيل بأمريكا الجنوبية (كولومبيا، بيرو، بوليفيا، بارجواي، أورجواي، الأرجنتين..كما أشار وافي في كتابه.
غير أن عدم تغلب إحدى اللغتين لا يحول دون تأثر كل منهما بالآخر. فالإنجليزية الحديثة بانجلترا والفرنسية الحديثة بفرنسا تتقارضان المفردات منذ أن أتيح للشعبين المتجاورين فرص الاحتكاك وتبادل المنافع. وكذلك تفعل الفرنسية بفرنسا مع الألمانية بألمانيا ومع أخواتها المجاورة لها في الجنوب الشرقي والغربي بإيطاليا وإسبانيا والبرتغال. وتجاور التركية والفارسية، وإن لم تؤد إلى تغلب إحداهما على الأخرى، قد ترك في التركية آثاراً واضحة من الفارسية وبخاصة في المفردات، وترك كذلك في الفارسية بعض آثار من التركية. وتجاور الفارسية والعراقية في العصر الحاضر، وإن لم ينته إلى تغلب لغوي، قد نقل إلى كل منهما كثيراً من آثار الأخرى في المفردات والقواعد والأساليب. ومجاورة الجرمانية واللاتينية في العصور القديمة، وإن لم يينته إلى تغلب إحداهما، قد نقل إلى أولاهما كثيراً من مفردات الثانية وترك في الثانية بعض آثار الأولى.
وعليه؛ فمتى أتيح للغتين متجاورتين فرص الاحتكاك، لا مناص من تأثر كل منهما بالآخرى، سواء أتغلبت إحداهما أم كتب لكلتيهما البقاء. غير أن هذا التأثر يختلف من حالة لأخرى كما سبق الإشارة. فإذا كان الفناء قد حق على إحداهما؛ فإنها لا تقوى على مقاومة ما تقذفها به الثانية من مفردات وقواعد وأساليب ولا تكاد تسيغ ما تتجرعه منها، فيتخمها ويضعف بنيتها، فتخور قواها وتفنى أنسجتها الأصلية شيئاً فشيئاً حتى تزول، على حين أن الغالبة تسيغ كل ما تأخذه من الأخرى، مهما كبرت كميته وعظم شأنه، فيستحيل إلى عناصر من نوع عناصرها، فتزداد به قوة ونشاطاً، بدون أن تدع له مجالاً للتأثير في بنيتها أو تغيير تكوينها الأصلي؛ كما كان شأن الإنجليزية والفرنسية الغالبتين مع اللهجات السلتية المغلوبة بأيرلندا وويلز ومقاطعة البريتون.
وإذا كان البقاء قد كتب لكلتيهما، تعمد كل منهما إلى ما تأخذه من الأخرى فتسيغه وتقاوم آثاره الهادمة، فتبقى كل منهما متميزة الشخصية، موفورة القوى، سليمة البناء، كما كان من شأن الفارسية مع التركية، والفرنسية مع الإيطالية والإسبانية والبرتغالية.    
 

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية