الصيغتان إنّ ، أنّ الثقيلتان
م. محمد يحيى كعدان
يقول فيهما المرادي ما يلي: " حرف، له قسمان:
الأوّل: أن يكون حرف توكيد، ينصب الاسم ويرفع الخبر. نحو: إنَّ زيداً ذاهبٌ، خلافاً للكوفيين، في قولهم: إنها لم تعمل في الخبر شيئاً، بل هو باقٍ على رفعه قبل دخولها.
وأجاز بعض الكوفيين نصب الاسم والخبر معاً، بـ " إنَّ " وأخواتها. وأجازه الفراء في " ليت " خاصة. ونقل ابن أصبع عنه أنه أجاز في " لعلَّ " أيضاً. قال ابن عصفور: وممن ذهب إلى جواز ذلك، في " إنَّ " وأخواتها، ابن سلاّم في "طبقات الشعراء". وزعم أنها لغة رؤبة وقومه، وقال ابن السّيد: نصبُ خبر " إنَّ " وأخواتها لغة قوم من العرب. وإلى ذلك ذهب ابن الطراوة. والجمهور على أنّ ذلك لا يجوز. ومن شواهد نصب خبر " إنَّ " قول عمر بن أبي ربيعة:
إذا اسْودَّ جُنحُ اللَّيلِ فلْتأتِ، ولْتكنْ ***** خُطاكَ خِفافاً، إنَّ حُرَّاسَنا أُسْدا
وأوّلَه المانعون على أنه حال، والخبر محذوف، أي: تلقاهم أُسْداً أو خبر " كان " محذوفة، أي: كانوا أُسْداً.
ومن أحكام " إنَّ " أنها قد تُخفَّف، كما تقدم في باب الثنائي، خلافاً للكوفيين. فـ " إن " المخفَّفة عندهم نافيةٌ، وهي حرف ثنائي الوضع، واللام بعدها بمعنى " إلاّ ". و" إنَّ " المشددة لا تُخفف ويُبطلُ قولَهم أنّ من العرب من يُعمِلَها، بعد التخفيف، عَمَلَها وهي مُشدَّدَةٌ، فيقول: إنْ عمراً لمنطلق، حكاه سيبويه.
ومن أحكامها أنها قد تتصل بها " ما " الزائدة، فيبطل عملها، ويليها الجملتان: الاسمية والفعلية، فتكون " ما " كافَّة لها عن العمل، ومهيأة لدخولها على الأفعال. والجمهور على أنّ إعمالها، عند اتصال " ما "، غير مسموع. ثم اختلفوا في جوازه قياساً.
وذهب قوم إلى منعه، وهو مذهب سيبويه، فإنه لا يجيز أن يعمل عنده، من هذه الأحرف، أعني " إنَّ " وأخواتها، إذا لحقتها " ما "، إلاّ " ليت " وحدها. وذكر ابن مالك أنّ الإعمال قد سُمع في " إنّما " وهو قليل. وذُكر أنّ الكسائي، والأخفش، روياه عن العرب.
مسألة: اشتهر في كلام المتأخرين، من أهل النحو، أنّ " إنّما " للحصر. قال الشيخ أبو حيان: والذي تقرّر، في علم النحو، أن " ما " الداخلة على " إنَّ " وأخواتها كافَّة لها عن العمل، فإنْ فُهم حصرٌ فمن سياق الكلام، لا منها. ولو أفادت الحصر لأفادته أخواتها المكفوفة بـ " ما ".
وقال ابن عطية: " إنّما " لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد، حيث وقع. ويصلح، مع ذلك، للحصر. فإذا دخل في قصة، وساعد معناها على الانحصار، صحَّ ذلك وترتَّب. كقوله تعالى أنَّما إلهُكُمْ إلهٌ واحِدٌ الأنبياء 108، وغير ذلك من الأمثلة. وإذا كانت القصة لا تتأتى للانحصار بقيت " إنّما " للمبالغة فقط، كقوله عليه السلام " إنّما الرِّبا في النَّسيئةِ ".
واحتجّ من ذهب إلى أنّها تفيد الحصر بوجهين:
أحدهما لفظي، وهو أنّ العرب أجرت عليها حكم النفي و" إلاّ "، ففصلت الضمير بعدها، كقول الفرزدق:
أنا الذائدُ، الحامي الذِّمارَ، وإنَّما ***** يُدافِعُ عن أحسابِهم أنا، أو مِثلِي
لمّا كان غرضه أنْ يحصر المُدافِعَ لا المُدافَعَ عنه فصل الضمير. ولو قال " وإنّما أدافعُ عن أحسابهم " لأفهم غير المراد. فدلّ ذلك على أنّ العرب ضمنت " إنّما " معنى " ما " و" إلّا ".
والثاني معنوي، وهو وجه يُسند إلى علي بن عيسى الرَّبَعي، وهو من أكابر نحاة بغداد، أنه لمّا كانت كلمة " إنَّ " لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه، ثم اتصلت بها " ما " الزائدة المؤكِّدة، ناسب أنْ تُضمَّنَ معنى الحصر لأنّ الحصر ليس إلاّ تأكيداً على تأكيد. فإنّ قولك: زيد جاء لا عمرو، لمن يردد المجيء الواقع بينهما، يفيد إثباتَه لزيد في الابتداء صريحاً، وفي الآخر ضمناً.
واستدل الإمام فخر الدين، على أنها للحصر، بأنّ " إنَّ " للإثبات، و" ما " للنفي، فـ " إنَّ " لإثبات المذكور، و" ما " لنفي ما عداه، ورد بأنه قول مَنْ لا وقوف له على علم النحو، وهو ظاهر الفساد، لوجوه منها: أن فيه إخراج " ما " النافية عن ما تستحقُه، من وقوعها صدراً. ومنها أن فيه الجمع بين حرف نفي وحرف إثبات، بلا فاصل. ومنها أنه لو كانت نافية لجاز أنْ تعمل، فيقال: إنّما زيد قائماً. ذكر بعضهم هذه الأوجه، ولا يُحتاج، في بيان فساد هذا القول، إلى ذلك، فإنه لا يخفى فساده.
قلتُ: ذكر القرافي في " شرح المحصول " أنّ أبا علي الفارس نقل في مسائله " الشيرازيّات " أنّ " ما " في " إنّما " للنفي. والله أعلم.
القسم الثاني: أنْ تكون حرف جواب، بمعنى " نَعَمْ ". ذكر ذلك سيبويه، والأخفش. وحمل المبرّد، على ذلك، قراءة من قرأ إنَّ هذانِ لَسَاحِرانِ طه 63. وأنكر أبو عبيدة أنْ تكون " إنّ " بمعنى " نَعَمْ ", ومن شواهدها قول الرادِّ (ردّ بذلك على قول فضالة بن شريك)، حين قال القائل: لعنَ اللهُ ناقةً حَمَلَتْني إليكَ، فقال: إنَّ وراكبَها، أي: نعم ولَعَنَ راكبَها.
ويبطل كون " إنَّ " في هذا الكلام هي المؤكِّدة، من وجهين: أحدهما عطف جملة الدعاء على جملة الخبر. والثاني أنه لم يوجد حذف اسم " إنَّ " وخبرها في غير هذا الكلام.
قلت: وقد صحَّح بعض النحويين جواز عطف الطلب على الخبر، وقال: هو مذهب سيبويه.
وأما قول الشاعر (عبيد الله بن قيس الرقيّات):
ويَقُلْنَ : شَيبٌ قد عَلا ***** كَ، وقد كَبِرْتَ، فقلتُ: إنَّهْ
فيحتمل أنْ تكون " إنَّ " فيه بمعنى " نَعَمْ "، كما قال الأخفش. ويحتمل أنْ تكون المؤكِّدة، والهاء اسمها، والخبر محذوف، كما قال أبو عبيدة. وإذا جُعلت بمعنى " نَعَمْ " فالهاء للسكت.
فائدة: ذكر بعض النحويين لـ " إنَّ " في الكلام عشرة أنحاءٍ:
الأول: أنْ تكون حرف توكيد.
والثاني: أنْ تكون حرف جواب، بمعنى " نعم ".
وقد تقدّم الكلام على هذين.
والثالث: أنْ تكون أمراً للواحد المذكَّر، من الأنين، نحو: إنَّ، يا زيدُ.
والرابع: أنْ تكون فعلاً ماضياً، مبنياً لما لم يُسمَّ فاعله من الأنين، على لغة رديئة، بالكسر، نحو: إنَّ، في الدار.
والخامس: أنْ تكون أمراً لجماعة الإناث، من الأين، وهو التعَب، نحو: إنَّ، يا نساء، أي: اتعبْنَ.
والسادس: أنْ تكون فعلاً ماضياً، خبراً عن جماعة الإناث من الأين أيضاً، نحو: النساء إنَّ، أي: تعِبْنَ.
والسابع: أنْ تكون أمراً، من " وأى " وعد: وعدَ، للمؤنثة. كقول بعض المتأخرين:
إنّ هندُ، الجميلةَ، الحسناءَ ***** وأيَ مَنْ أضمرَتْ لخِلٍ، وفاءَ
فـ " إنَّ " فعل أمر مؤكّد بنون التوكيد الشديدة، وكان أصله قبل لحاق النون " إيْ " بياء المخاطبة، لأنه أمر للمؤنث، فلما لحقته النون حذفت الياء، لالتقاء الساكنين، و"هند" في البيت منادى، تقديره: يا هند، والجميلةَ الحسناءَ: نعت لـ "هند" على المحل، كقوله: " يا عُمَرُ، الجوادا ". وأجاز بعضهم أن تكون " الجميلة " مفعولاً لفعل الأمر الذي هو " إنَّ "، وقوله " وأيَ " مصدر منصوب بـ " إنَّ ".
والثامن: أنْ تكون أمراً لجماعة الإناث، من: آنَ يَئينُ، أي: قَرِبَ، فتقول: إنَّ يا نساءُ، أي: اقرَبْنَ.
والتاسع: أنْ تكون ماضياً، خبراً عن الإناث، من " آنَ " أيضاً، نحو: النساءُ إنَّ، أي: قرِبْنَ.
والعاشر: أنْ تكون مركَّبة من " إنْ " النافية و" أنا ". كقول العرب: إنَّ قائمٌ. يريدون: إنْ أنا قائمٌ. فنقلوا حركة الهمزة إلى نون " إنَّ "، وحذفوا الهمزة، وأدغموا، ونظيره قوله:
لكنّا هوَ اللهُ رَبِّي الكهف 38. وسُمع من بعضهم: إنَّ قائماً، بالنصب، على إعمال " إنَّ " عمل " ما " الحجازية. والله أعلم.
أنَّ المفتوحة الهمزة لها قسمان:
الأول: أنْ تكون حرف توكيد، تنصب الاسم، وترفع الخبر، مثل " إنَّ " المكسورة التي تقدم ذكرها. و" أنَّ " المفتوحة من الأحرف المصدريّات. ونصّ النحويون على أنها تفيد التوكيد كـ " إنَّ " المكسورة. واستشكله بعضهم. قال: لأنكَ لو صرّحتَ بالمصدر المنسبك منها لم يُفِد توكيداً. وليس هذا الإشكال بشيء.
واختُلف في المفتوحة الهمزة، فقيل: هي فرعُ المكسورةِ. وهو مذهب سيبويه، والمبرّد في "المقتضب"، وابن السراج في "الأصول". ولذلك قال هؤلاء في " إنَّ " وأخواتها:
الأحرف الخمسة. ولم يعدوا " أنّ " المفتوحة، لأنها فرع. وهو مذهب الفراء. وقيل: إنّ المفتوحة أصلٌ للمكسورة. وقيل: هما أصلان. والأول هو الصحيح، ويدل على صحته أوجه:
الأول: أنّ الكلام مع المكسورة جملةٌ غير مؤوّلة بمفرد، بخلاف المفتوحة. والأصل أنْ يكون المنطوق به جملة من كل وجه، أو مفرداً من كل وجه.
الثاني: أنّ المكسورة مستغنية بمعموليها عن زيادة، بخلاف المفتوحة.
الثالث: أنّ المفتوحة تصير مكسورة، بحذف ما تتعلَّق به. كقولك في "عرفتُ أنَّك بَرٌّ": إنَّكَ بَرٌّ. ولا تصير المكسورة مفتوحةً، إلاّ بزيادة. والمرجوع إليه بحذفٍ أصلٌ.
الرابع: أنّ المكسورةَ تفيد معنى واحداً، وهو التوكيد. والمفتوحة تفيده، وتعلّق ما بعدها بما قبلها، فكانت فرعاً.
الخامس: أنّ المكسورة أشبه بالفعل، لأنها عاملةٌ غيرُ معمولة، كما هو أصل الفعل.
السادس: أنّ المكسورة كلمة مستقلة، والمفتوحة كبعض اسم.
إذا تقرر هذا فاعلم أنّ " أنَّ " لها ثلاثة أحوال: تارة يجب كسرها، وتارة يجب فتحها، وتارة يجوز الوجهان.
فيجب كسرها في كل موضع، يمتنع فيه تأويلها مع اسمها وخبرها بمصدر. وذلك في ثمانية مواضع:
الأول: ابتداء الكلام حقيقةً، نحو إنَّا أعطَيناكَ الكوثَرَ الكوثر 1، أو حكماً، نحو ألا إنَّ أولياءَ اللهِ لا خَوفٌ علَيهِمْ ولا هُمْ يَحزنُونَ يونس 62.
الثاني: صلة الموصول، نحو وآتيْناهُ مِنَ الكُنوزِ ما إنَّ مَفاتحَهُ لتَنُوءُ القصص 76، فـ " إنَّ " وما دخلت عليه صلةُ " ما ". فإن لم تكن صلة بل جزءَ صلةٍ فُتحت. نحو: جاء الذي في ظنّي أنّه فاضلٌ، وإذا وردت مفتوحة، بعد الموصول، جعلت الصلة محذوفة، و" أنّ " معمولةً لذلك المحذوف. كقولهم: لا أكلِّمُهُ ما أنَّ في السماء نجماً، أي: ما ثبتَ أنَّ.
الثالث: جواب القسم، نحو والعَصْرِ، إنَّ الإنسانَ لَفِي خُسْرٍ العصر 1، فإنْ كان في جملتها اللام، كالآية فلا خلاف في وجوب كسرها. وإنْ لم يكن ففيه خلاف، سيأتي.
الرابع: إذا حُكيتْ بالقول، نحو قالَ اللهُ: إنِّي مَعَكُمْ المائدة 12.
فلو وقعت بعد القول، غيرَ محكية، فُتحتْ، نحو: أتقولُ أنَّكَ فاضلٌ. لأن القول، في هذا، عامل عمل الظن.
الخامس: أنْ تقع موقع الحال، مصاحبة لواو الحال، نحو وإنَّ فريقاً مِنَ المُؤمِنينَ لكارِهُونَ الأنفال 5، أو غير مصاحبة، نحو إلاّ إنّهم ليأكُلُونَ الطَّعامَ الفرقان 20.
السادس: أنْ تكون قبل لام معلقة، نحو واللهُ يَعْلمُ إنَّكَ لَرَسُولُه المنافقون 1. فهذه لولا اللام لفتحت.
السابع: أنْ تكون واقعة موقع خبر اسمِ عينٍ، نحو: زيدٌ إنّه قائمٌ، ومنه قوله تعالى إنَّ الّذينَ آمَنوا، والّذينَ هادُوا والصَّابئينَ، والنَّصَارَى، والمَجُوسَ، والّذينَ أشرَكوا، إنَّ اللهَ يَفصِلُ بَينَهُمْ الحج 17. وكذا الواقعة موقع المفعول الثاني في باب " ظَنَّ "، لأنه خبر في الأصل. كقول الشاعر (وضاح اليمن):
مِنّا الأناةُ، وبعضُ القومِ يَحْسِبُنا ***** إنّا بِطاءٌ، وفي إبطائنا سَرَعُ
فإن قلتَ: فهل يجوز فتح " إنّ " إذا وقعت خبر اسم عينٍ، وتُجعل من باب الإخبار بالمعنى عن العين، مبالغةً، فيُقال: زيد أنّه قائم، كما يقال: زيد قيام؟
قلتُ: الحرف المصدري أضعف من صريح المصدر، فلا يلزم أنْ يجوز فيه ما جاز في المصدر الصريح. وقد نصّ ابن مالك، على أنّ الحرف المصدري لا يؤكَّد به فعلٌ، ولا يقع نعتاً، ولا حالاً.
الثامن: أنْ تقع بعد "حيثُ" نحو: من حيث إنّه فاضلٌ. قال بعض النحويين: وقد أولع عوامّ الفقهاء بفتح " إنّ " بعدها. قلتُ: يلزم من أجاز إضافة "حيثُ" إلى المفرد، وهو الكسائي، أن يجيز فتح " إنّ " بعدها. أي " أنَّ " فتح الهمزة.
ويجب فتح: " أنّ " في كل موضع، يلزم فيه تأويلها، مع اسمها وخبرها، بمصدر. وذلك في ثمانية مواضع:
الأول: أنْ تقع في موضع فاعل، نحو أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنَّا أنزَلنا علَيكَ الكِتابَ العنكبوت 47.
الثاني: أنْ تقع في موضع نائبه، نحو قُلْ: أوحِيَ إليَّ أنَّهُ استَمَعَ الجن 1.
الثالث: أنْ تقع في موضع مبتدأ، نحو: في ظنّي أنّكَ فاضلٌ. ويجب تقديم خبرها، لأنّ المفتوحة لا تقع في ابتداء الكلام، خلافاً لبعضهم، ما لم تكن بعد " أمّا " فيجوز [التقديم والتأخير]، نحو: أمّا أنّكَ فاضلٌ ففي ظنّي.
الرابع: أنْ تقع اسم " كان "، نحو: كان في ظني أنّكَ فاضلٌ.
الخامس: أنْ تقع اسم " إنّ " مفصولة بالخبر، نحو: إنَّ عندي أنّكَ فاضلٌ. وكذا باقي أخواتها، وقد تتصل بـ " ليت " سادة مسدّ اسمها وخبرها، عند سيبويه. وقال الأخفش: بل مسدَّ الاسم فقط، والخبرُ محذوفٌ. كقول الشاعر:
فيا ليتَ أنَّ الظاعِنينَ تلفتُوا ***** فيُعْلَمَ ما بي، مِن جَوىً، وغَرامِ
وأجاز الأخفش ذلك في " لعلّ "، قياساً على " ليت "، وعنه أنه أجازه في " لكنّ " أيضاً.
وأجاز الفراء، وهشام، دخول " إنّ " المكسورة على " أنّ " المفتوحة، نحو: إنّ أنّكَ قائمٌ يُعجبُني، والصحيح المنع، وهو مذهب سيبويه.
السادس: أنْ تكون خبر اسم معنى، نحو: أمْرُكَ أنَّكَ ذاهبٌ.
السابع: أنْ تقع في موضع منصوب، غير خبر، نحو قوله تعالى ولا تخافونَ أنّكُمْ أشرَكتُم باللهِ الأنعام 81. وإنّما احترزتُ عن الخبر، والمراد به ثاني مفعولي " ظنّ " فإنه خبر في الأصل، لأنها يجب كسرها فيه، بعد اسمِ عينٍ، كما تقدم.
الثامن: أنْ تقع في موضع مجرور، بحرف، نحو ذلكَ بأنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ لقمان 30. وإمّا أنْ تقع في موضع مجرور بإضافة نحو إنَّهُ لَحَقٌ مِثلَ مَا أنّكُمْ تنطِقونَ الذاريات 23.
وهذه المواضع الثمانية ترجع إلى ثلاثة أشياء: أوّلها: أنْ تقع في موضع مصدر مرفوع. وثانيها: أنْ تقع في موضع مصدر منصوب. وثالثها: أنْ تقع في موضع مصدر مجرور.
وزاد بعضهم، في مواضع وجوب فتحها: أن تقع بعد " لولا " و" لو " و" ما " التوقيتية. نحو فلولا أنّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحينَ الصافّات 143، ولَوْ أنّهُمْ صَبَرُوا الحجرات 5، وحكى ابن السِّكيت: لا أكلمُكَ ما أنَّ في السماءِ نجماً. وهذه المواضع الثلاثة راجعة إلى ما تقدم، لأنها بعد " لولا " في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف، على الصحيح. وبعد " لو " في موضع رفع على الفاعلية، بفعل مقدر. أي: ولو ثَبَتَ أنَّ. وهو مذهب الكوفيين، والمبرّد، والزجاج، والزمخشري، أو على الابتداء، والخبر محذوف، وهو مذهب سيبويه. وقيل: لا حذفَ، لأنها سدّت مسدّ الجزأين ]الخبرين[. وبعد " ما " التوقيتية في موضع رفع بفعل مقدر، تقديره: ما ثَبَتَ أنَّ في السماءِ نجماً.
ويجوز الفتح والكسر في كل موضع، يجوز فيه تأويلها بمصدر وعدم تأويلها به. وذلك في ثمانية مواضع:
الأوّل: في نحو: أوَّلُ قولي أنّي أحمدُ اللهَ، فالكسر على تقدير: أولُ قولي هذا الكلامُ المفتتح بـ " إنّي ". والفتح على تقدير: أولُ قولي حمدُ اللهِ، وفي هذه المسألة أقوال، لا يحتمل هذا الموضع ذكرها.
الثاني: بعد " إذا " الفجائية، كقول الشاعر:
وكنتُ أرَى زَيداً، كما قِيلَ سَيِّداً ***** إذا إنَّهُ عَبدُ القفا، واللَّهازِمِ
يروى بالكسر، على عدم التأويل، والتقدير: إذا هو عبدٌ. وبالفتح، على تقدير: فإذا عبوديَّتُه. فعبوديته مبتدأ، " وإذا " الفجائية خبره، عند من جعلها ظرفاً، وأما من جعلها حرفاً فالخبر عنده محذوف، تقديره: حاصلة.
الثالث: بعد فاء الجواب، كقوله تعالى كَتَبَ رَبُّكمْ على نَفْسِهِ الرَّحمةَ: أنّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً، بجهالةٍ، ثُمَّ تابَ مِنْ بَعدِهِ، وأصْلَحَ، فإنّهُ غفورٌ رَحيمٌ الأنعام 54، قرئ بالوجهين. فالكسر على جعل ما بعدها جملة تامة، أي: فهو غفور. والفتح على تقديرها بمصدر مبتدأ، والخبرُ محذوف. أو خبرٍ، والمبتدأ محذوف، والتقدير: فغفرانه حاصلٌ، أو: فجزاؤه الغفران.
الرابع: بعد " أمَا "، نحو أمَا أنّكَ ذاهبٌ. رواه سيبويه بالكسر والفتح. فالكسر على جعل " أمَا " حرف استفتاح، والفتح على جعلها بمعنى " حقاً ". وقد تقدم بيان ذلك.
الخامس: بعد القسم، إذا لم توجد اللام، بشرط تقدم فعل القسم، نحو: أحلفُ باللهِ أنّ زيداً قائمٌ، فالكسر على جعلها جواباً للقسم. والفتح على تقدير "على" وتكون متعلقة بفعل القسم، وقد روي بالوجهين قول الشاعر (رؤبة):
أو تَحْلِفِي برَبِّكِ، العَلِيِّ ***** إنّي (أنّي) أبو ذَيّالِكَ الصَبِيِّ
وأجاز الكوفيون فتح " أنّ " إذا وقعت جواب القسم، دون لام، [نحو: واللهِ أنّ زيداً قائمٌ]. والصحيح وجوب الكسر، وهو مذهب البصريين، وقال ابن خروف: لم يسمع فتحها بعد اليمين، ولا وجه له. قلتُ: وهو كما قال. وقد أوضحت ذلك، في غير هذا الكتاب.
السادس: بعد "حتى" نحو: عرفتُ أموركَ حتى انّكَ فاضلٌ. إنْ جعلت "حتى" جارّةً أو عاطفةً فتحت " أنّ ". وإنْ جعلت "حتى" ابتدائية كسرت، كقولهم: مَرِضَ حتى إنّه لا يُرجى، بالكسر.
السابع: بعد " لا جَرَمَ " المشهور بعدها فتح " أنّ "، كقوله تعالى لا جَرَمَ أنَّ لهُمُ النارَ النحل 62. ومذهب سيبويه أنّ " لا " نافية، وهي ردٌّ لما قبلها، مما يدل عليه سياق الكلام. و" جَرَمَ " فعل ماض بمعنى: حَقَّ. و" أنّ " مع صلتها في مواضع رفع بالفاعليَّة. وقال بعضهم: جَرَمَ بمعنى كَسَبَ، وفاعلها ضمير مستتر. و" أنّ " مع صلتها في موضع نصب بالمفعولية، والتقدير: كَسَبَ لهم كفرُهم أنّ لهم النارَ، قال الشاعر:
نَصَبْنا رأسَهُ، في رأسِ جِذْعٍ ***** بما جَرَمَتْ يداهُ، وما اعتدَيْنا
أي: بما كسبت.
وقال الكوفيون: " لا " نافية، و" جَرَمَ " اسم " لا " وهي بمعنى: لا بدّ، ولا محالة، و" أنّ " على تقدير " مِنْ "، أي: لا جَرَمَ من أنّ لهم النار. فـ " جَرَمَ " عند الكوفيين اسم. قال الزمخشري: من الجَرْمِ، وهو القطع، كما يقال: إنّ بُدّاً من التبديد، وهو التفريق.
فكما أنّ معنى " لا بدّ أنّكَ تفعل كذا " بمعنى: لابد من فعله، فكذلك " لا جَرَمَ أنّ لهم النارَ " أي: لا قَطْعَ لذلك. بمعنى أنهم أبداً يستحقون النار، ولا انقطاع لاستحقاقهم. وروي عن العرب: لا جُرْمَ أنّه يَفعلُ، بضم الجيم وسكون الراء، بزنة: بُدَّ. و" فُعْلٌ " و" فَعَلٌ " أخوان، كرُشْد ورَشَد.
وأما وجه الكسر بعد " لا جَرَمَ " فهو ما حكاه الفراء. قال: العرب تقول: لا جَرَمَ لآتيَنَّكَ، ولا جَرَمَ لقد أحسنتَ، فتراها بمنزلة اليمين. قال ابن مالك: ولإجرائها مجرى اليمين حكي عن العرب كسر " إنّ " بعدها. قلتُ: والظاهر أنّ " إنّ " إذا كسرت بعدها فهي جواب قسم، مقدر بعد " لا جَرَمَ ". وهو ظاهر قول ابن مالك في " التسهيل ": وربما أغنَتْ " لا جَرَمَ " عن لفظ القسم، مراداً. ويؤيّد ذلك أن بعض العرب صرّح بالقَسَمِ بعدها، فقال: لا جَرَمَ، واللهِ لا فارقتُك.
الثامن: بعد " أمّا "، إذا جاء بعدها ظرف، أو مجرور، نحو: أمَّا في الدار فإنَّ زيداً قائمٌ، فيجوز الكسر على تقدير: فزيد قائم، ويتعلق المجرور بما في "أمّا" من معنى الفعل، ويجوز الفتح على تقدير: فقيامه، والمجرور في موضع الخبر.
وزاد بعضهم موضعاً آخر، وهو أن تقع بعد " مذ " و" منذ ". قلتُ: أما الفتح بعدهما فمتفق عليه. وأما الكسر فلم يذكره سيبويه، وصرّح بعضهم بامتناعه، وصرّح الأخفش بجوازه. واعلم أنّ بسط الكلام على هذه المواضع يستدعي تطويلاً. فلذلك اختصرت الكلام عليها.
مسألة: إذا كُفَّت " إنَّ " المفتوحة بـ " مَا " بطل عملها. وأجاز بعضهم إعمالها، قياساً، ولم يُسمع. وذهب الزمخشري إلى أن " إنّ " المكسورة و" أنّ " المفتوحة، كليهما إذا كفَّا بـ " مَا " يفيدان الحصر، كقوله تعالى: قُلْ: إنّمَا يُوحَى إليَّ أنَّمَا إلهُكُم إلهٌ واحدٌ فصّلت 6. ورده الشيخ أبو حيان، في " تفسيره " بأن " مَا " مع " إنّ " كهيَ مع " كأنّ " و" لعلّ " فكما لا تفيد الحصر، في التشبيه، والترَجِّي، فكذا لا تفيده مع " إنّ " المكسورة. وأما جعله " أنّما " المفتوحة للحصر فشيء انفرد به، ولا يُعلم الخلاف إلا في المكسورة. ثم إنّ الحصر يقتضي أنه لم يُوحَ إليه إلا التوحيد، وهو باطل. انتهى.
وانتصر بعض الناس للزمخشري بأنْ قال: إنّ المفتوحة هي فرع المكسورة، بدليل أن سيبويه عدها خمسه، واستغنى بـ " إنّ " المكسورة عن المفتوحة. فلا فرق بينهما في الحصر، وعدمه. وقوله: ثم إنّ الحصر الخ، جوابه أنّ الحصر، عند القائلين به، باعتبار المقام. وهو هنا خطاب للمشركين والمُوحَى إليه في حقهم أولاً، هو التوحيد. والله أعلم.
القسم الثاني: أنْ تكون بمعنى " لعلّ "، كقول العرب: ائتِ السوقَ أنَّكَ تشتري لنا شيئاً. حكاه الخليل، ومنه قراءة من فتح الهمزة، في قوله تعالى وما يُشْعِرَكُمْ أنَّها إذا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ الأنعام 109، أي: لعلّها، و" أنّ " هذه إحدى لغات " لعلّ ". وسيأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى.".
انظر بداية الصياغة بالأداتين " أنْ " ، " إنْ " الخفيفتان في مقالنا السابق.
لنتأمل الصيغة التالية كمثال: "إنّ زيداً قائمٌ"، وتكتب حسب اللفظ "إنْنَ زيداً قائم"، وندرسها وفق المراحل:
" إ ( نْ(نَ(زيداً قائم))) ". تعني: معرفة المتكلم والمستمع لشكل وصفة عنصر حاضر ( إ 11111 )، من عنصر غائب معروف الشكل فقط (عام غير موصف) للمتكلم ( ن 10010 )، من عنصر غائب معروف الشكل للمتكلم ( ن 10010 )، هو الصيغة: زيداً قائم.
في معرفة المتكلم والمستمع معاً بشكل وصفة عنصر حاضر (ا)، نلاحظ التوكيد في كون هذا العنصر المتآلف هو من عنصر عام غائب معروف للمتكلم (ن)، من عنصر عام غائب معروف للمتكلم (ن).
إنّ الإشارات في الأداة "إنْنَ"، من كسر فسكون ففتح، تدل على أن العنصر المتآلف هو صفة وغير متجسد (غير مرئي)، من عنصر مستقل، من عنصر متشكل.
أمّا الإشارات في الأداة "أنْنَ"، من فتح فسكون ففتح، فتدل على أن العنصر المتآلف هو شكل متجسد (مرئي)، من عنصر مستقل، من عنصر متشكل.
لنتأمل المثال التالي: "إنّما الربا في النسيئة"، وندرسها وفق المراحل "إ(نْ(نَ(مَ(ا(الربا في النسيئة)))))". تعني: بداية وجود عنصر متآلف مع المتكلم والمستمع معاً ( ا 11111 )، هو الصيغة: "الربا في النسيئة".
بعد ذلك يتم تغييب الصيغة وقصر معرفة الشكل والصفة على المتكلم فقط ( م 10011 ). أي أنّ الصيغة: مَا(الربا في النسيئة) تعني: معرفة المتكلم فقط (معرفة كاملة) لشكل وصفة عنصر غائب (م)، لعنصر متآلف (ا) هو الصيغة (الربا في النسيئة). ومن ثم يتم التوكيد على المعرفة العامة من قبل المتكلم لشكل الصيغة الغائبة ( ن 10010 )، ومن ثم يتم إحداث التآلف (إ) بين المتكلم والمستمع والعنصر الغائب والمعروف شكلاً للمتكلم فقط توكيداً (نن)، لعنصر غائب معروف شكلاً وصفة للمتكلم (م)، لعنصر حاضر ومتآلف (ا)، هو الصيغة (الربا في النسيئة).
من قوله تعالى قلْ: إنّمَا يُوحَى إليَّ أنّمَا إلهُكُمْ إلهٌ واحدٌ الأنبياء 108، نجد أنّ، والله أعلم، الصيغة " أنّما إلهكم إله واحد " هو شكل متجسد (حسب إشارة الفتح للألف)، بينما الصيغة: " إنّما يُوحى إليَّ " هي صفة غير متجسدة (حسب إشارة الكسر للألف)، وذلك وفقاً لإشارات الألف في " أنّمَا، إنّمَا ".
الآن لنتأمل إشارة الألف في الصيغتين " إنّكَ مسافرٌ، أنّكَ مسافرٌ ". الكسر في الأولى، والفتح في الثانية.
الأولى: تدلّ على كون الصيغة هي صفة غير مجسّدة، أي: كونكَ مسافرٌ، صيغة غائبة (موصّف فقط، هناك دلائل عليها) ويمكن أنْ يكون السفر مستقبلاً. بينما الثانية: هي شكل متجسّد حصل في الماضي مثلاً، وبما أنّ الحاضر عبارة عن ماضٍ ومستقبل معاً، فإنّ الصيغتين أعلاه تنسحبان على الحاضر أيضاً. لكن الصيغة الأولى غائبة بالكسر (غير مرئية حقيقة أو حكماً)، بينما الصيغة الثانية حاضرة بالفتح (مرئية حقيقة أو حكماً).
لنتأمل الصيغة التالية كمثال: " أنّ زيدٌ "، وتُكتب حسب اللفظ " أنْنَ زيدٌ "، ندرسها وفق المراحل:
" أ ( نْ(نَ(زيدٌ))) ". تعني: معرفة المتكلم والمستمع لشكل وصفة عنصر حاضر ( أ 11111 )، من عنصر غائب معروف الشكل فقط (عام غير موصف) للمتكلم ( ن 10010 )، من عنصر غائب معروف الشكل للمتكلم ( ن 10010 )، هو الصيغة: زيدٌ.
في معرفة المتكلم والمستمع معاً بشكل وصفة عنصر حاضر (أ)، نلاحظ التوكيد في كون هذا العنصر المتآلف هو من عنصر عام غائب معروف للمتكلم (ن)، من عنصر عام غائب معروف للمتكلم (ن).
بما أنّ " أنْ " تُفيد نقل التعريف من المتكلم إلى المستمع مع توصيفه. فإنّ أنْ(نَ(زيدٌ)) تُفيد نقل تعريف شكل العنصر الغائب مع إحضاره وتوصيفه من قبل المتكلم إلى المستمع (أنْ)، لعنصر غائب معروف الشكل (غائب الصفة) للمتكلم فقط (ن)، للعنصر زيد. نحن أمام أنين زيد. وهو تآلف لعنصر غائب متشكّل غير موصّف لزيد.
الإشارات في الأداة "أنْنَ"، من فتح فسكون ففتح، تدلّ على أنّ العنصر المتآلف هو شكل متجسد (مرئي)، من عنصر مستقل، من عنصر متشكل.
هذا وإنّ كافة الأمثلة التي يوردها المرادي أعلاه، لا تخرج عما سبق ذكره.
|