الانْسِجَام الصّوتيّ بين جَمَال المَبْنَى وسُمُو المَعْنَى فِي القُرْآن الكَرِيمِ
د. نوال بنت سيف البلوشية
يعدّ القرن الثّاني الهجريّ البدايات الرّائدة لإدراك صله الأصوات بالمعني ، لدى علماء العلوم العربيّة، مثل الخليل بن أحمد الفراهيديّ وتلميذه سبوية، إذ أوجدوا إشارات الصِّلة بين اللّفظ ومدلوله بقول الخليل " اعلم أنّ من كلام العرب اختلاف اللّفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللّفظين والمعنى واحد، واتفاق اللّفظين واختلاف المعنيين "، وذلك يدلل أن أمر مراعاة انتقاء الألفاظ لها أثر في سرد جمال المعاني بالكلمات.
وإذ انتقلنا إلى القرن الثّالث الهجريّ نجد المعتزلة المهتمين في علوم اللّغة أولوا جمال معنى اللّفظ في العبارات بدلالاتها وفق المنطق، لذا نجد ما نسب السّيوطسيّ إلى الصّيمري من المعتزلة أنّه يرى أن بين اللّفظ ومدلوله صلة طبيعيّة، واحتجّ بأنّ الألفاظ إزاء المعاني لم توضع اعتباطًا، وإنّما اختار لكلِّ لفظٍ معناه الَّذِي توحي به أصواته.
هذا في الكلام العربي على وجه العموم ، ماذا لو تحدثنا عن صلة الأصوات بالمعني في اللّفظ القرآنيّ، الَّذِي تَجلى فيه الإعجاز اللّغوي والبلاغي ، ليس على مستوى الألفاظ فحسب بلّ حتى على مستوى؛ الحرف والفاصلة لحكمة بالغةٍ تعبّر عن معجزة لا تقبل التّبديل بأي حالٍ من الأحوال: قال تعالى: " كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ"
والمتأمل في بلاغة القرآن الكريم يلحظ الانسجام الصّوتي في تكوين كلماته ؛ المؤدية في تشكيل المعنى المراد إيصاله من ربّ العزة إلى بني البشر سواءٌ أكان للسامع أو القارئ، العاميّ أو العَاِلم أو المتعمق علمًا.
وفي هذا المقام من الجدير أن نتطرق إلى مثالٍ في الإعجاز الحرفيّ البلاغيّ - على سبيل المثال لا الحصر في سورة [ الكهف: ٧٢ و ٧٥ ] في قصة الرّجل الصَّالِح مع سيّدنا موسى عليه السّلام، نلاحظ اختلاف إجابات الرّجل الصَّالِح مع سيّدنا موسى عليه السّلام عندما استفسر منه عن خرق السَّفِينَة، وقتل الولد، ونقب الجدار؛ إذ قال له في المرّة الأولى قال: " أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا" ، وفي المرّة الثّانيّة قال له: "قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا"
لاحظ الجار والمجرور ( لَكَ ) هما حرفان، كان وجودهما للتعبير عن حالة المسؤول، ورغبته في تفريغ السَّائِل، مؤكدًا أنّ ريادة المبنى تفيد زيادة المعنى كقاعدة في علوم اللّغة العربيّة عند أهل اللّغة. وفي آية أخرى في الموقف نفسه بالسّورة - الكهف - نلحظ إعجازًا بلاغيًّا حرفيًّا آخر
[ الكهف:٨٢ ] قال الله تعالى: " وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا" ، لم يقل ما لم تستطع عليه صبرا، مثل ما ورد في الآية السّابقة، وإنّما قال: " مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا" ، ليُشير إلى عظيم الجهد الَّذِي بذله سيّدنا موسى لاستيعاب ما شاهد، بعد أن فسّر له سرّ تصرفاته؛ إذ هي لا تحتاج لهذا الجهد الكبير.
وإذا تطرقنا إلى الانْسِجَام الصّوتيّ الوارد في القرآن الكريم من خلال الفواصل القرآنيّة باعتبارها عنصرٌ أساسيّ من عناصر اللّغة الإيقاعيّة في الإعجاز البلاغيّ الّذي يمتاز بحسن الإيقاع مع الانسجام الصّوتيّ ليس على مستوى الحرف المتمثل في الرّوي وإنّما يتجاوزه إلى الكلمات والجمل؛ لأنّها تأتي تلك الفواصل في ختام الآيات حاملة تمام المعنى، مع التّوافق الصّوتيّ في آنٍ واحدٍ؛ لتقع في الأسماع فتتأثر بها نفوس السّامعين؛ بمحاسن ذلك التّمثيل الّذي يجعل للحرف والكلمات تأثير في النّفس البشريّة والسمو بالمشاعر الإنسانيّة لما لها من أثر واضح في تحقيق اليقظة النّفسيّة من خلال الانسجام العظيم بين الإيقاع الصّوتيّ والمعنى المراد إيصاله من خلال الكلمات القرآنيّة المعروضة.
ولا يفوتنا أن نوضح في هذا المقام أنّ الفواصل القرآنيّة تنقسم وفق مصطلحاتها البلاغيّة إلى أربعة أقسام:
١- فواصل متماثلة: كقول الله تعالى: " قلّ هو الله أحد ، الله الصمد ... " [ الإخلاص:١، ٢ ]
٢- فواصل متوازنة ومتقاربة: كقول الله تعالى: "الواقعة ما الواقعة، وما أدراكَ ما الواقعة ..."
[ الواقعة: ١، ٢ ].
٣- فواصل مطرّفة: كقول الله تعالى: " اقتربت السّاعة وانشقّ القمر. وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا: سحر مستمر..." [ القمر: ١، ٢ ].
٤- فاصلة منفردة: كالفاصلة الّتي على حرف" الثّاء" في سورة الضّحى: الآية ( ١٠) قوله تعالى : " و أمّا بنعمةِ رَبِّك فحدّث"
الخاتمة:
وفي الختام لا يسعنا إلا أن نقول سبحان من جعل الإعجاز في أم اللّغات - اللّغة العربيّة-، وسبحان من جعل معجزته الخالدة في القرآن الكريم لحفظ اللّغة العربيّة بما فيها من جماليات الحرف واللّفظ والنّسق بين المعنى وخصائصها الصّوتيّة في تحقيق إيصال المعنى المراد من آياته العظيمة.
وتلك هي حقيقة دلائل إعجاز القرآن الكريم في استخدام اللّفظ؛ لتحقيق المعنى الدّقيق في صورة تشبيهيّة مجسدة للمعنى المراد إيصاله، إذ يعطي لكلّ عقلٍ حاجته دون تناقض بحقائق الأكوان أو نقصٍ في بيان الصّورة المرادة ترجمتها للإنسان. سواءٌ أكان للسامع أو القارئ أو المفسِّر الَّذِي جعل جُلّ همّه معرفة دقائق علوم القرآن الكريم لغةً وتأويلاً وتفسيرًا.
المراجع
بافرح، ع. ب. س. ب. ي. (2009). من أوجه الإعجاز في قصص القرآن الكريم. مجلة القراءة والمعرفة -مصر، ع 87 ، 166 - 227. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/44707
الحريري، م. ف. م. ر. (1995). إعجاز الحرف في القرآن الكريم. مجلة الوعي الإسلامي - وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت، ع 349 ، 48 - 49. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/441396
حنون، ز. (2005). البحث الصوتي عند ابن جني في ضوء الدراسات الحديثة. وقائع الندوة العلمية : الأصوات والصواتم في اللسان العربي - وحدة بحث اللسانيات والنظم المعرفية المتصلة بها بكلية الآداب والعلوم الانسانية بصفاقس - تونس، صفاقس: كلية الآداب و العلوم الإنسانية. وحدة بحث اللسانيات و النظم المعرفية المتصلة بها، 103 - 124. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/625045
دراج، أ. ع. (2001). التنمية المعجمية للفظ لسان في العربية و العبرية: دراسة مقارنة. علوم اللغة - مصر، مج 7, ع 1 ، 271 - 338. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/143357
سعدون، أ.، و الحباس، م. (2006). توظيف حرف الظاء في القرآن الكريم: دراسة احصائية تحليلية صوتية دلالية (رسالة ماجستير غير منشورة). جامعة الجزائر، الجزائر. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/543361
سويداني، م. (2006). مكانة الفواصل من الإعجاز في القرآن الكريم. مجلة نهج الإسلام ( وزارة الأوقاف السورية ) - سوريا، مج 28, ع 104 ، 133 - 137. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/376822
شطناوي، م. ت. م.، و خليل، ع. ر. ح. (2010). الإيقاع الصوتي في نسق الألفبائية العربية. مجلة جامعة دمشق للآداب والعلوم الانسانية -سوريا، مج 26, ع 1,2 ، 267 - 296. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/97569
عبدالمتجلي، م. ر. ح. (1990). مكانة الفواصل من الإعجاز في القرآن الكريم. الدارة - السعودية، مج 15, ع 3 ، 7 - 21. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/136906
نوفل، ع. (1978). أوجه الإعجاز فى القرآن الكريم. مجلة التربية -قطر، ع 26 ، 58 - 59. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/286160
واكي، ر. (2012). الإيقاع اللغوي في الأجناس النثرية و الكلام المرسل: فن الخطابة و المقامة و آيات القرآن الكريم نماذج تطبيقية. مجلة التراث - مخبر جمع دراسة وتحقيق مخطوطات المنطقة وغيرها - جامعة زيان عاشور بالجلفة - الجزائر، ع 3 ، 139 - 154. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/485780
|