لغات ولهجات - 7
د. محمد سعيد حسب النبي
تنشعب أحياناً لغة المحادثة في البلد الواحد أو المنطقة الواحدة إلى لهجات مختلفة تبعاً لاختلاف طبقات الناس وفئاتهم؛ فتكون ثمة لهجة للطبقة الأرستقراطية، وأخرى للعمال، وثالثة للبسطاء، ورابعة للأميين..إلخ. ويطلق المحدثون من علماء اللغة على هذا النوع من اللهجات اسم اللهجات الاجتماعية تميزاً لها عن اللهجات المحلية على نحو ما يرى علي وافي في كتابه اللغة والمجتمع.
ويؤدي إلى نشأة هذه اللهجات ما يوجد بين طبقات الناس وفئاتهم من فروق في الثقافة والتربية، ومناحي التفكير والوجدان، ومستوى المعيشة، وحياة الأسرة، والبيئة الاجتماعية، والتقاليد والعادات، وما تزاوله كل طبقة من أعمال وتضطلع به من وظائف، والآثار العميقة التي تتركها كل وظيفة ومهنة في عقلية المشتغلين بها، وحاجة أفراد كل طبقة إلى دقة التعبير وسرعته وإنشاء مصطلحات خاصة بصدد الأمور التي يكثر ورودها في حياتهم وتستأثر بقسط كبير من انتباههم، وما يلجؤون إليه من استخدام مفردات في غير ما وضعت له أو قصرها على بعض مدلولاتها للتعبير عن أمور تتصل بصناعتهم وأعمالهم. فمن الواضح أن هذه الفوارق وما إليها من شأنها أن توجه اللهجة في كل طبقة وجهة تختلف عن وجهتها عند غيرها؛ فلا تلبث أن تنشعب اللهجة العامة إلى لهجات تختلف كل منها عن أخواتها في المفردات وأساليب التعبير وتكوين الجمل ودلالات الألفاظ.. وما إلى ذلك. وقد تذهب بعض اللهجات الاجتماعية بعيداً في هذا الطريق، فيشتد انحرافها عن الأصل الذي انشعبت منه، وتتسع مسافة الخلق بينها وبين أخواتها حتى تكاد تصبح لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها.
ويزداد في العادة انحراف اللهجة الاجتماعية عن أخواتها كلما كثرت الفوارق بين الطبقة الناطقة بها وبقية الطبقات، أو كانت حياة أهلها على مبدأ العزلة عن المجتمع أو على أساس الخروج على نظمه وقوانينه. ولا تظل اللهجات الاجتماعية جامدة على حالة واحدة، بل تسير في السبيل الارتقائي نفسه الذي تسير فيه اللهجات المحلية، فيتسع نطاقها باتساع شؤون الناطقين بها، ومبلغ نشاطهم، واحتكاكهم بالأجانب وبأهل الطبقات الأخرى من مواطنيهم، وما يخترعونه من مصطلحات ويتواضعون عليه من عبارات ويقتبسون عن اللغات الأجنبية من مفردات وأفكار، وتختلف أساليبها وطرق تركيبها باختلاف العصور وتطور الظروف الاجتماعية المحيطة بالطبقات الناطقة بها. ويشير علي وافي إلى أن لهجات العمال بفرنسا قد اختلفت بعد الحرب العظمى الأولى اختلاف بيناً عما كانت عليه قبل ذلك، واختلفت في القرن العشرين اختلافاً كبيراً عما كانت عليه في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. ولا أدل على ذلك من أن معظم القطع التي كتبها الشاعر الفرنسي فرنسوا فيلون وبتلك اللهجات في القرن الخامس عشر لم يتمكن بعد في العصر الحاضر حل رموزها وفهم مدلولاتها كما أشار علي وافي.
وتؤثر اللهجات الاجتماعية في لغة المحادثة العادية تأثيراً كبيراً، فتستعير منها هذه اللغة كثيراً من التراكيب والمفردات، وبخاصة المفردات التي خصص مدلولها العام واصطلح على إطلاقها على أمور خاصة تتعلق بفن أو حرفة وما إلى ذلك. ويدلل علي وافي على ذلك بلغة المحادثة العادية بباريس في العصر الحاضر فقد دخل فيها عن هذا الطريق كثير من مفردات اللهجات الاجتماعية وبخاصة لهجات العمال، وكذلك الشأن في لغة الإنجليز.
ولا تتميز في العادة اللهجات الاجتماعية بعضها عن بعض تميزاً واضحاً إلا في المدن الكبيرة حيث يتكاثف السكان، ويزدحم الناس، وتنشط الحركة الاقتصادية، وتتنوع الوظائف وتتعدد المهن، ويشتد النزاع بين الطبقات. وأهم أنواع اللهجات الاجتماعية ما يسمونه "اللهجات الحرفية"، وهي اللهجات التي يتكلم بها فيما بينهم أهل الحرف المختلفة حيث تتميز اللهجات الحرفية بعضها من بعض تميزاً كبيراً في المناطق التي يسود فيها نظام الطوائف كما يشير علي وافي، حيث تختص كل طبقة بحرفة أو وظيفة خاصة تكون وقفاً على أفرادها لا يجوز لهم ولا لأعقابهم من بعدهم الاشتغال بغيرها، كما لا يجوز لغيرهم الاشتغال بها، كما هو الحال في كثير من بلاد الهند. على حين أنه في الأمم الحديثة التي قضي فيها على نظام الطوائف؛ فأصبحت الحرف حظاً مشاعاً بين جميع أفراد السكان، يزاول كل منهم المهنة التي تروقه، وينتقل إذا شاء من مهنة إلى أخرى، وأصبحت الطبقات الاجتماعية غير واضحة الحدود ولا موصدة الأبواب على غير أهلها، في هذه الأمم تتداخل اللهجات الحرفية بعضها في بعض، ويتأثر بعضها ببعض، وتقل بينها الفروق، وتضعف المميزات.
وقد أشار علي وافي في كتابه اللغة والمجتمع أن بعض علماء "الاتنوجرافيا" قد خُيل إليه أن اللهجات الاجتماعية لا تنشأ من تلقاء نفسها، بل تخلق خلقاً وتبتدع بالتواضع والاتفاق بين أفراد الطبقة الواحدة، وترتجل ألفاظها ومصطلحاتها ارتجالاً؛ وقد تابعهم في هذا الرأي بعض القدامى من علماء اللغة. ولذلك لم تنل هذه اللهجات كبير حظ من عنايتهم. ويؤكد وافي أن هذه النظريات ليس لها أي سند عقلي أو تاريخي، بل إن ما تقرره يتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية، فعهدنا بهذه النظم –في رأي وافي- أنها لا ترتجل ارتجالاً ولا تخلق خلقاً؛ بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها. هذا إلى أن معظم هذه اللهجات منتشر بين طبقات محددة لا يتاح لمثلها أن تنشأ إنشاء لغة كاملة المفردات متميزة القواعد.
والحق أن اللهجات الاجتماعية لا تختلف في نشأتها عن اللهجات المحلية التي تكلمنا عنها قبل ذلك؛ فكلا النوعين ينشعب عن اللغة الأصلية ويستمد منها أصول مفرداته ووجهة أساليبه وتراكيبه وقواعده؛ وكلاهما تلقائي النشأة ينبعث من مقتضيات الحياة الاجتماعية وشؤون البيئة. وكل ما بينهما من فرق أن السبب الرئيس لنشأة اللهجات المحلية يرجع إلى اختلاف الأقاليم وما يحيط بكل إقليم من ظروف وما يمتاز به من خصائص؛ على حين أن السبب الرئيس في نشأة اللهجات الاجتماعية يرجع إلى اختلاف طبقات الناس في الإقليم الواحد وما يكتنف كل طبقة منها من شؤون ويفصلها بعضها عن بعض من مميزات في شتى مظاهر الحياة.
غير أننا قد نعثر أحياناً في بعض اللهجات الاجتماعية على مفردات لا أصل لها مطلقاً في لغة البلد ولا اللغات الأجنبية. ومفردات كهذه يغلب على الظن أنها قد اخترعت في الأصل اختراعاً من بعض الأفراد وانتشرت عن طريق التقليد، ولكن هذه الظاهرة تكاد تكون مقصورة على لهجات الطبقات الراقية، ولا تبدو إلا في عدد قليل من الكلمات. أما معظم المفردات فترجع أصولها إلى كلمات منحدرة من لغة البلد أو مقتبسة من بعض لغات أجنبية. غير أن الغالب أن ينالها مع تقادم الزمن كثير من التحريف والتغيير، فتبعد بعداً كبيراً عن الأصل الذي أخذت منه. وقد تصل في انحرافها هذا إلى درجة يخيل معها للباحث السطحي أنها ابتدعت بالتواضع والارتجال. ولعل هذا ما حدا ببعض العلماء على الظن بأن اللهجات الاجتماعية ناشئة عن تأليف واختراع.
|