|
|
تـعـريـب الـمـنـاهـج الـطـبـيـة . . مـعـركـة بـيـن الـتـنـظـيـر والـتـطـبـيـق
تتجدد الدعوة في أكثر من مؤتمر ومركز ومؤسسة على امتداد الوطن العربي، للاهتمام بقضية تعريب المناهج الطبية، بهدف استثمارها تطبيقيا بالكليات، في الوقت نفسه نجد حركة الواقع تسير في الاتجاه المعاكس، إذ صارت اللغة العربية كأداة لتعليم العلوم في تراجع بالغ بمصر وغيرها من الدول العربية.
ودائما يثار السؤال: هل الأمة العربية غير قادرة على مضاهاة كوريا واليابان وتركيا ورومانيا، وهي كلها دول تدرس العلوم الطبية بلغاتها الوطنية؟!
تجددت إثارة مثل هذا السؤال، وغيره من التساؤلات حول معوقات إتمام التجربة (تطبيقيا) في الوطن العربي، وذلك في مؤتمر انعقد مؤخرا حول "تعريب العلوم الطبية" في مقر جامعة الدول العربية بالقاهرة، حيث ألقي الضوء على تلك الفجوة بين التنظير -في التوصيات دائما- والتطبيق، فنجد مثلا قرارات مجلس أمناء "مركز تعريب العلوم الصحية" بالكويت تدور حول حتمية إصدار مناهج عربية متكاملة بكليات الطب العربية باعتبار ذلك ضرورة اجتماعية، مع عدم إغفال اللغة الإنجليزية في التدريس بالكليات، في حين أن التطبيق ليس على مستوى القاعدة العريضة من الكليات، بالرغم من انتهاء "مركز تعريب العلوم الصحية" من إصدار مناهج معربة في التخصصات المختلفة، كما أعلن في المؤتمر الأخير.
وإذا سلمنا بوجود فجوة بين التنظير والتطبيق في قضية التعريب -كما يوضح لنا خبراء التعليم في هذا الاستطلاع- فإن ذلك يعني وجود عقبات تمنع المضي قدما في توسعة نطاق التدريس باللغة العربية في سائر الكليات، وهنا تثار تساؤلات حول طبيعة تلك العقبات، وهل تتصل فقط بجوانب إجرائية تمنع تحول المثال إلى واقع، أم أن هناك قناعات أخرى لدى بعض الأساتذة والطلاب مضادة أو مناوئة للإيمان بضرورة تعريب العلوم الطبية؟.
يشير الدكتور أحمد مستجير خبير العلوم التكنولوجية المتقدمة الأستاذ بكلية الزراعة جامعة القاهرة، إلى أن تعريب العلوم الطبية أمر طبيعي وبديهي، لأن كل أمة يجب أن تدرس بلغتها كما هو الحال في كثير من الدول الآسيوية والأوربية وكذلك في إسرائيل، قائلا: "هناك فجوة بين توصيات وقرارات المؤتمرات، وما صارت عليه الحال في معظم الكليات العربية التي يتم فيها التدريس بلغات أجنبية، فثمة تراجع ملغز، حيث كنا في الماضي غير البعيد ندرس الفسيولوجي وعلم الوراثة ومعظم العلوم باللغة العربية في كليات الزراعة والطب والصيدلة وغيرها.
وقد نشأ تدريس علم الوراثة باللغة العربية بكافة مصطلحاته على سبيل المثال في كلية الزراعة بجامعة القاهرة في ثلاثينيات القرن الماضي، ولم تمثل اللغة أي عائق، وعندما سافرنا وقتها في بعثات إلى أوربا وأمريكا لم نصب بدهشة؛ لأن الدراسة بالعربية كان يوازيها استيعاب واف وتتبع دقيق للمصطلحات الإنجليزية، وهذا ما نطالب به الآن.
ويوضح د.مستجير أن الأساتذة هم الذين يوجدون لأنفسهم استثناءات للتدريس بالإنجليزية، فهم أكبر عائق يقف أمام مسيرة التعريب، وأضخم عقبة أمام قبول الطلاب للدراسة بالعربية، حيث يميلون إلى النقل والاستسهال عوضا عن أن يكون لهم دور ضخم في الترجمة والتعريب ونحت المصطلحات بالعربية، وملاحقة كل ما هو جديد، والتعاون الخلاق مع بعضهم البعض، ومع المجامع اللغوية، ودور النشر التي تصدر المعاجم العلمية العربية.
يؤكد على هذا الخبير التعليمي المصري الدكتور حامد عمار بقوله: إن معوقات تعريب العلوم الطبية لا تتعلق بطبيعة اللغة العربية؛ لأن الكوريين واليابانيين نجحوا في التدريس بلغات شعوبهم بيسر. ويقول: يمكن حصر المعوقات في الأساتذة العرب الذين يميلون إلى النسخ ويبغضون مشقة الترجمة والتعريب، خاصة في سوق العمل التي أصبحت مرتبطة في عصر العولمة بالدارسين بلغات أجنبية، وفي الإطار العام الذي بات يروج للإنجليزية باعتبارها لغة العلم التي لا يمكن التخلي عنها، وللأسف فإن بعض الباحثين والأساتذة الجامعيين يروجون لهذه المفاهيم.
ويرى د.عمار أن دارسي العلوم الطبية، وغيرها، باللغات الأجنبية يشعرون بتميز وهمي عن الدارسين بالعربية، ولذا فإن التدريس بالعربية يتقلص رغم ازدياد المؤتمرات والقرارات التي توصي به. ويضيف في حديث لشبكة إسلام أون لاين.نت: اللغة العربية كأداة لتدريس العلوم الطبية والفيزيقية والجيولوجية وغيرها صارت في تراجع، سواء في الجامعات الخاصة أو الحكومية، والمدهش هو وجود قسمين في بعض الكليات، أحدهما للتدريس بالعربية، والآخر باللغة الأجنبية باعتباره أكثر تميزا!.
ومن مخاطر تدريس العلوم بغير العربية -كما يقول د.عمار- أن التعليم بلغة أجنبية معناه أن يتوجه الدارس بفكره إلى السياقات الأجنبية وأنماط التفكير التي تحتضنها اللغة الأجنبية، مما يبعد الطالب عن اشتباكه مع واقعه ومجتمعه، الأمر الذي يغتال روح المواطنة لدى الطالب العربي. وهذه المسألة بالغة الخطورة في شتى العلوم، وفي حالة العلوم الطبية مثلا فإنها تؤدي إلى انعزال الطبيب عن مجتمعه وفقدانه للتواصل مع مرضاه.
وعلى الرغم من كل هذه الأطروحات والنظريات الداعية إلى ضرورة اعتماد المناهج العربية في كليات الطب والكليات العلمية، فإن أغلبية الطلاب الذين يدرسون بالفعل باللغة الإنجليزية في كلياتهم، لم يبدوا حماسا للدراسة باللغة العربية، بل إنهم وصفوا الدارسين للعلوم الطبية باللغة العربية في دولة مثل سوريا مثلا بأنهم "خريجون حكموا على أنفسهم بعدم التطور في المستقبل".
وقد تركزت وجهات نظر كل من حسام المصري (كلية الطب- جامعة المنوفية)، وهاني مصطفى (كلية الصيدلة- جامعة طنطا)، وعماد علي (كلية العلاج الطبيعي- جامعة القاهرة)، وأحمد عبد الواحد (كلية الصيدلة- جامعة القاهرة) في أن المعاجم العلمية والشروح العربية لا يمكن أن تلاحق الكشوف والمستجدات اليومية في حقول العلم في أوربا والعالم الغربي، وأن بعض الاختصارات والمسميات والتوصيفات بالإنجليزية من الصعب معادلتها بالعربية.
وحول قضية المصطلح باعتبارها أبرز مشكلات الترجمة العلمية، يوضح الباحث والمترجم السوري أحمد ميمون الشاذلي في ورقة له تبنتها "الجمعية الدولية للمترجمين العرب" أن المعضلة الأشد بروزا تأتي بسبب الدقة التي ترتكز عليها العلوم عامة، وليست العلوم الطبيعية فقط، ولذا يجب على المترجم ألا يموّه المفهوم أثناء نقله من لغة إلى أخرى.
كما أن مجامع اللغة العربية، وعلى رأسها مجمع الخالدين بالقاهرة، قد لعبت دورا مهما خلال السنوات الأخيرة في مجال إصدار المعاجم العلمية بهدف إقرار ونشر المصطلحات العلمية العربية، وقد أصدر مجمع اللغة العربية بالقاهرة العديد من المعاجم العلمية المتخصصة، في الجيولوجيا والفيزيقا الحديثة والحاسبات والمصطلحات الطبية والكيمياء والصيدلة وغيرها، وفي كتاب "العربية في بلدان غير عربية"، يرى الباحث الدكتور أحمد مصطفى أبو الخير الخبير السابق بوزارة الخارجية المصرية، أن المعاجم المتخصصة الحديثة في شتى علوم العصر قد باتت موجودة باللغة العربية، ويقول: "الطموح لا يقف عند حد، وإننا نطمح أن تزيد هذه المعاجم كما، وأن تثرى وتنضج كيفا. وإننا -نحن العرب- لسنا ملزمين، ولا غيرنا، بالمسمى الأجنبي".
ويقول الدكتور سامي نجيب رئيس جمعية لسان العرب، حول لجوء المجامع اللغوية والجمعيات والمراكز المهتمة باللغة العربية وقضايا الترجمة والتعريب، إلى مظلة جامعة الدول العربية دائما في مؤتمراتها وأنشطتها: "تقام مؤتمرات عربية كثيرة لمناقشة قضايا اللغة، وعلى رأسها قضية تعريب العلوم، وهذه المؤتمرات تصدر توصيات مهمة، لكنها تظل في النهاية مجرد أقوال، ويأتي الاحتماء بالجامعة العربية أملا في تحويل التوصيات إلى قرارات ملزمة، وبالتالي ننتقل من حيز التنظير إلى نطاق التطبيق.
ستار تايمز
|
|
|
|
|