لغتنا الحزينة
د. محمد سعيد حسب النبي
تسمع لغته فتراها مبرأة من شوائب أكدار اللحن، تبصرها منتهى الصفاء، يرقص القلب لها طرباً، وتسعد النفس بها ألفة وأَلَقَاً. أثارت اللغة في نفسه ذلك الإنسان المبدع؛ فانسابت على لسانه روعة أي روعة. ترى لغته خضراء مبسوطة يزهو عليها ملتف النباتات ومعشوشب الروض، وشُم الجبال الراسيات والأنهار الجاريات.
جاء يجلو ما وضعه اللغويون من طلاسم زادوا بها لغتنا الجميلة خفاء واكتتاماً، ليلبسوها براقع من الاصطلاحات وغوامض الكلمات؛ فحجبوا عنا جلال لغتنا العربية وجمالها. وقد أعانه على ذلك عين فؤاده الثاقبة، جلية الإنسان التي لم تغشها حجب، ولم تتراكم أمامها سحب الاصطلاحات وغريب المعجميات. وبذا دانت له اللغة العربية في عصرنا الحديث، فقد جعلها رغم قدسيتها تجري على ألسنة الناس.. إنه الراحل المبدع الشاعر فاروق شوشة.
وما يزال من مزايا الشاعر والدلائل الواضحة على شاعريته أنه يرى في كل مخلوق جمالاً، وأن كل شيء صاغته يد القدرة إنما هو نافذة يشرف منها على أعماق الأبد. ولقد استجلى فاروق شوشة ذلك، فقد توفرت له قدرة على استجلاء غوامض الجمال في لغتنا العربية، ولذا فقد استحق الراحل أن يكون شاعراً ومصوراً ونابغة وعبقرياً.
ولعل كثيراً منا يرى أن اللغة العربية كانت قبل أن يجلوها فاروق شوشة موحشة، يشوب أديمها غبار القدم، مطوية في أجواف كتب التراث، وبفكرة إبداعية وبدعم من الإذاعة المصرية بدأ برنامجه الإذاعي "لغتنا الجميلة" في ستينيات القرن الماضي ليكشف عن لألاء متألق من جماليات لغتنا العربية في ثوب قشيب وصوت عذب رخيم.
ومن العجيب أنه وبعد نصف قرن من الزمان، لم تزل تجد جديداً في جماليات اللغة العربية عبر تراث لغوي وأدبي مترامي الأطراف لا يمكن الإحاطة به مهما امتد العمر، ولعل أكثر ما يثير انتباه القارئ أن البرنامج الإذاعي "لغتنا الجميلة" قد أصبح شائعاً متداولاً على الألسنة والأقلام في العالم العربي، وأجمل ما يثير الانتباه أن صفة الجمال قد أصبحت مقترنة بلغتنا العربية، فلا تكاد تُذكر حتى يقال لغتنا الجميلة بدلاً من لغتنا العربية، وهو ما يعد نجاحاً يحسب للراحل الجليل. فقد عرض جوانب إبداع اللغة الثري من قيم رفيعة للجمال، ومن مضامين حضارية وإنسانية، ومن تراث حي ومتفاعل، ومن وعاء لهذا الوجود العربي كله؛ إنساناً وتاريخاً ومواقف و إنجازات.
ولئن رحل الرجل جسداً؛ فإن ما تركه من تراث إذاعي ولغوي وإبداعي سيصير نقشاً على جدران وجداننا العربي، وكل ما أنتجه وأبدعه وعلمه بحروفه وشعره سيصبح معلقة على أستار تراثنا اللغوي في العصر الحديث.
|