أ. توفيق قريرة
التعليمية التي تعرّف تعريفا مختصرا بأنها مجموعة من المناهج والتقنيات والإجراءات المُتبعة في التعليم، أشرقت في نهاية ستينيثات القرن الماضي في اختصاص الرياضيات، ثم انتشر ضياؤها ليعُم بقية المعارف المُدَرَّسة، ومن بينها اللغات التي يعنينا الخوض في واحدة منها في هذا المقال هي العربية، وفيه نعرج فيه على ما يَنتظر تدريس العربية في المدارس والجامعات في ذهن يحكمه تصور واهم أن العربية تخوض طوال حياتها حربا باردة هي في الحقيقة دون كيخوتية.
لئن رجحت البيداغوجيا الكفة للعلاقة بين المُعلم والمتعلم، إذ بنجاحها تنجح العملية التربوية برمتها، فإن التعليمية أدارت الاهتمام حول نقل المعرفة العالمة (معرفة العلماء الخام) إلى المتعلمين، فجوهر النظر ليس هو التبسيط وحسب، بل كيفية بناء المُعلم والمتعلم لتلك المعرفة بناء يراعي شروط التلقي وظروفه المختلفة. ما يتعلمُ ليس مادة تنقل إلى المتعلمين، بل بواسطتهم، على حد عبارة زيمارمان، وليست المعرفة المُعلمة مفيدة بموضوعها، بل بتوظيفها وبالأهداف المحصلة من وراء اكتسابها، وليس المتعلم مهما بما لديه من ذكاء فطري يسبق العملية التعليمية بل بالقدرات التي تُكسبها له العملية التعليمية نفسها وهو يمارسها، وبانخراطه في البناء المعرفي الذي يكون فيه طرفا نافذا، وبذلك لن يكون سؤال المعلم: ماذا سأنقل للمتعلمين؟ بل كيف أستطيع أن أجعل المتعلمين قادرين على بناء المعارف والقدرات المستهدفة؟
تندرج تعليمية اللغة العربية التي صار لها مختصون وجامعات ومؤتمرات.. ضمن التعليمية المخصصة أو تعليمية الاختصاص، وتدرس هذه التعليمية في اختصاص اللغات طُرُقَ التعليم المناسبة للاختصاص وشروط نقل المعارف المختصة في محيط مدرسي – دراسي معين وكيفيات اكتساب المتعلم لها. ومن غير الممكن في تعليمية اللغات أن ندرس العربية كما ندرس الإنكليزية، بل لا ندرس العربية في موطنها كما ندرسها خارج موطنها أو ندرسها للناطقين بغيرها.
ليس عمر تعليمية العربية في الوطن العربي قصيرا، ولا هو بالطويل. وليست الوسائل المتاحة لإنجاحه قليلة ولا هي بالكثيرة. وليست المقاربات التي تستخدم في البحوث ثابتة، وليس النجاح في جعل تعليمية العربية محوريا شيئا مستحيلا، إن حل الباحثون والقائمون عليها إشكالا أساسيا حول هوية اللغة العربية الفصحى أهي لغة أولى أم ثانية؟ وإن هم تخلوا عن وهمٍ مورث مفاده أن العربية في خطر، بل هي تخوض حربا وجودية ضروسا مع بقية اللغات وحتى مع لهجاتها.
من المؤسف أنه ما تزال تسيطر على موقفنا العلمي من الفصحى الرؤى والأحكام المعيارية نفسها التي تسيطر عليه خارجها ونستطيع أن نقول إن موقفنا من العربية هو موقف عاطفي ونفسي مورث من عصر الشعوبية القديم، عصر اعتقد فيه علماء العربية وهما، أن العربية تخوض أشرس المعارك مع لغات كبرى أقدم منها سموها بشكل استهجاني «الأعجمية»، أي اللغات التي لا تبين وسموا الناطقين بها أعاجم أي ناطقين لا يُبينون إن هم تحدثوا بألسنتهم. نحن نفهم تاريخيا وعقديا – لا لسانيا – لمَ أوهمونا بأن هناك معركة وجود بين العربية وغيرها من اللغات المجاورة لها، ولمَ تنصلوا من العربية المجاورة لبلاد اللغات الأعجمية، وكأنما العدوى وصلتها ولا دواء لها إلا الاستئصال. نشأ ضرب من التعصب للغة العربية الفصحى ردا على تعصب للغات أخرى كالفارسية (تعصب مُعْلن) وكاليونانية التي كانت في ما يبدو لغة الإدارة (تعصب غير معلن).
بسطت العربية نفوذها بعد بسط النفوذ السياسي وهذا بديهي وصارت هي اللغة الرسمية التي تعتمد في السياسة والإدارة والثقافة، لسانيا لم يكن ذلك لا انتصارا ولا ما عاشته العربية حربا، يقال لسانيا إن اللغة العربية صارت لغة تنتمي إلى طبقة عليا، بمعنى أنها صارت تؤثر في غيرها وهذا أمر عادي بين اللغات، الإشكال أن علماء العربية نظروا إلى التأثير من جهة الإفساد: العربية إذا دخلتها عناصر أعجمية فسدت ودب إليها اللحن وما علينا إلا أن ننتظر موتها. نقول إن هذا التشخيص خاطئ لسانيا فاللغات تؤثر وتتأثر، وهي تحيا بهذا التفاعل ولا تموت. كان بنفوس العلماء خوف واهم نستطيع أن نقول عنه إنه مرضي ورّثوه الجمهور: العربية نعمة لغوية لا مثيل لها وما دامت بهذه الفرادة فإنها في خطر، هي في حرب باردة مع لغات أخرى بل مع لهجاتها التي نظر إليها على أنها بنات عَوَاق.
من الناحية العلمية تقول أبسط مبادئ اللسانيات إنه لا أفضلية للسان على لسان ولا متكلم بلسان على آخر، لأن الدور الأساسي لأي لسان هو أن يتمكن المتكلم به من أن يتواصل مع غيره، وطالما لعب اللسان هذا الدور فهو مُعافى، ولا يطلب أن يكون أفضل أو أقل فضلا.
قوة اللسان السياسية التي تجعله يستعمل في العلوم والتخاطبات اليومية أكثر من غيره شيء آخر: تلك رؤية لسانية اجتماعية تجعل الألسن طبقات من غير تمايز وتقارن من دون تفاضل بين أشدها انتشارا وتأثيرا في غيرها وأقلها حظا في ذلك. ولم ينظر العلماء إلى العلاقة بين العاميات والفصحى ولم يتطارحوا السؤال الأساسي الذي يقود إلى الحل: ما هو اللسان الذي نتكلمه في المهد من دون معلم أهو اللهجة أم اللغة الفصحى؟ بعبارة أخرى وإذا أردنا أن نرتب الأشياء علميا: هل لهجتنا هي اللسان الأول أم لغتنا؟ الجواب بالطبع واضح ولكن الأنفس الممتلئة تعاطفا وإعلاء للغة الفصحى والمزرية للهجات لا تقبله، رغم أن الفائدة التعليمية من ورائه كبيرة. فحين نقرر أن الفصحى لغة ثانية لا تعلمها إلا المدرسة مثلها مثل غيرها من اللغات الثانية، فإننا سنوفر لها ما نوفره من الطرق والآليات ما نوفره لغيرها. لكن أن نعتبر من يلحن في الفصحى مقصرا لأنه لَحن في لسانِه الأم ونسلط عليه أكبر العقوبات ونرميه بالتقصير ونستهجنه فهذا أول الظلم لمتعلم لسان يعتقد أنه لسانه الأصلي في حين أن لسانه الأصلي هو العامية. لسانيا لا يلحن متكلم بلسانه الأصلي، لأنه كما يقول شمسكي «متكلم – مستمع مثالي» ويعني به كل متكلم يحسن كلامه بلسانه الأصلي ويحسن فهمه ويقدر ذاتيا – وبلا رقيب خارجي- على أن يصلح الخطأ إن وقع فيه سهوا.
لا ننكر أن الحرب الباردة بين اللغات واللهجات هي شيء معدوم، إنها إن وجدت أوجدها العلماء والمتكلمون بما يصدرونه في شأنها من أحكام تصل درجة الأساطير. لكن اللسانيات «ناضلت» من أجل أن تفرض «عدلا» بين الألسن وسلاما حقيقيا بينها فلا حرب باردة ولا معلنة ولا خفية بينها، بل يمكن للمرء أن يتعلم ألسنة غيره ويكون الأمر يسيرا فقط إن عرف ما يكون لسانه.
خلاصة الأمر ما قاله لوي جان كالفاي من أن اللغات لا تُحارب، بل البشر هم من يحاربون. والحرب في العربية يقودها أناس لم يفهموا بعدُ ما هي لغتهم الأصلية وبدلا من أن يعزفوا لها وهم يعلمونها نغما للسلام يدقون لها طبول حرب أبدية.
القدس العربي