للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

الأدب العربي فوق أرجوحة الخوف

أحمد ناجي

 

كنت طفلاً صغيراً أشاهد التلفاز مع جدّي الذي بدا حزيناً وهو يتابع نشرة الأخبار التي تبث صورة لرجل عجوز يرقد على سرير في المستشفى وأنابيب مختلفة متصله بجسده. علّق جدي بأن الرجل في التلفاز شخص طيب ولا يفعل شيئاً سوى الكتابة ولا يفهم لماذا حاولوا قتله.

عرفت لاحقاً أن الرجل يدعى نجيب محفوظ. وبعد سنوات، سأعرف أن ما شاهدته كان لقطات لاستعادة نجيب محفوظ لوعيه بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها العام 1995، حينما وجه شاب، لم يقرأ أي كتاب لنجيب محفوظ، طعنات في رقبته بناءً على فتوى أطلقها شيوخ بتكفير نجيب محفوظ بحجة أن روايته تنشر الكفر.

رأيت كتب نجيب محفوظ للمرة الأولى بعدها بسنوات، في مكتبة مدرستي الثانوية. كنت أهرب من الفصول المكدسة بالطلاب، ومن رائحة العطانة التي تطبق على فضاء المدرسة، وأذهب إلى المكتبة الممتلئة بمئات الكتب المتنوعة. سحبت رواية لنجيب محفوظ وقصدت مكتب مسؤولة المكتبة لاستعارة الرواية، فتأففت وأخذت تبسمل وتستعيذ بالشيطان الرجيم ثم قالت إنها لن تسمح لي باستعارة تلك الرواية، ولا أي رواية من روايات نجيب محفوظ. شرحت المدرّسة المسؤولة عن المكتبة أن روايات نجيب محفوظ تحتوي على مشاهد "قلة أدب" لا تناسب مراهقاً مثلي، كما أن بعض رواياته تحتوي على أفكار إلحادية كافرة. في المقابل أشارت إلى رف يحتوي على مسرحيات شكسبير مترجمة إلى اللغة العربية، وقالت: يمكنك اختيار أي كتاب آخر، لشكسبير مثلاً، فهو أيضاً مسلٍ.

بالطبع لم أكن أريد التسلية، كنت أريد "قلة الأدب". خبأت رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ تحت قميصي وخرجت بها من المكتبة من دون أن تلاحظ مسؤولة المكتبة. التهمت الرواية في ليلة واحدة، وأعدتها إلى المكتبة في اليوم الثاني من دون أن تلاحظ. منذ تلك اللحظة، أدركتُ ما هى قواعد "الأدب" في البلاد التي أعيش فيها. فليس شرطاً أن تكون قاتلاً، أو ديكتاتوراً أو سياسياً معارضاً لكي تتعرض للاغتيال. يمكن أن تكون شخصاً مسالماً، وكتبتَ أكثر من خمسين رواية، وحصلت على جائزة نوبل للآداب، وتبلغ من العمر السبعين عاماً وتستعد لشيخوخة هادئة، فتتعرض للاغتيال من أجل رواية كتبتها منذ أربعين عاماً. حتى لو كنتَ كاتباً مسالماً غير معارض للسلطة، مثل نجيب محفوظ، حتى لو احتفَت بك السلطة بوضع كتبك في مكتبات مدارسها، فهذا لن يمنع مدرّسة من منع الطلاب من قراءة كتبك لأنها ترى أنك تنشر الكفر بينما كتب شكسبير يقطر منها الإسلام.

الأدب إذن، نشاط سري، يجب ممارسته في الخفاء، وبحذر شديد. الخوف هو رفيق دائم للكاتب العربي، وهو درجات. فهناك الخوف من السلطة السياسية إذا انتبهَت للكاتب أو الكتاب، ثم هناك الخوف من السلطة الدينية، ثم الأخطر مما سبق الخوف من رد فعل القارئ إذا لم يفهم ما كتبته أو إذا شعر بأن ما تكتبه يحتوي على مساس بالثوابت الوطنية أو الدينية أو المجتمعية أو أى ثوابت أخرى. لذا، مبكراً، حينما بدأت الكتابة كان قراري هو مصادقة هذا الخوف.

أنا في النهاية ابن هذا المكان وهذا الزمن، وما حدث في الماضي يفرض شروطه على الحاضر. في الستينات كانت جميع وسائل الإنتاج والتوزيع الثقافي خاضعة لملكية وسلطة الدولة، مثل الكثير من البلدان التي اتبعت نموذج الإتحاد السوفياتى في الإدارة الثقافية. في هذا الزمن، فرضت الدولة معاييرها وشروط محددة على الأدب، تخطيها يعنى عدم السماح لك بالنشر.

رفضت وزارة الثقافة المصرية نشر الرواية الرائدة "تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم، الكاتب الشاب وقتها. روى صنع الله أن وزير الثقافة طلب مقابلته، وفي استجواب طويل سأل صنع الله عن مشهد في الرواية، حيث يهم البطل الخارج من السجن بممارسة الجنس مع عاملة جنس لكن عضوه لا ينتصب. سخر الوزير، أمام موظفيه، من صنع الله إبراهيم وسأله: "هو أنت زي البطل بتاعك مبتعرفش ولا ايه؟". لم تنشر رواية صنع الله كاملة في مصر، إلا بعد ذلك بسنوات طويلة. لكن مصر خرجت باكراً من عباءة الاتحاد السوفياتي، تحديداً في نهاية السبعينات، وتراخت قبضة الدولة عن سوق الإنتاج الثقافي والفني، فألغيت الرقابة على الكتب، لكنها استمرت في امتلاك أكبر مؤسسات النشر وتوزيع الكتب. الأمر الذي وضع دور النشر الخاصة دائماً في مُنَافسة غير عَادلة. وبدلاً من الرقابة على الكتب، تركت الدولة هذه المهمة للتيارات الإسلامية والمؤسسات الدينية التي كانت مُنَافساً وشريكاً للحكم مع السلطة السياسية منذ السبعينات وحتى وصول الرئيس السيسي للحكم.

في هذا الوضع الخانق، تشكلت هوية الأدب المصري المعاصر. تعلمنا، نحن الكتّاب الأشرار، أن نحافظ على سرية ما نفعله. عشنا  في مجموعات سرية على هامش الحياة الثقافية الرسمية. منذ السبعينات، كانت أفضل الأعمال الأدبية تُطبع على نفقة أصحابها، ولا تسمح الدولة بتوزيعها على نطاق واسع، حتى انفتح سوق صناعة النشر والكتاب قليلاً مع بداية الألفية.

ظهرت الانترنت، ومعها تيسرت امكانية النشر، بل وامكانية النشر بأسماء مستعارة. ضخت الدول الخليجية آلاف الدولارات في صناعة النشر والكتاب. تزايد عدد المكتبات ودور النشر الجديدة. تنوعت أشكال الكتابة. ظهرت رواية الجريمة. وروايات أدب الرعب، وغيرها من أنواع الأدب التجارية، سريعة الانتشار، قصيرة العمر. غلبت على الأدب لغة منمقة تتصنع الرقة، بينما كتّابها يسيرون كل يوم في وحل الواقع، يكتبون روايات ترصد التغيرات الاجتماعية والطبقية. وحينما هبّت رياح الربيع العربي، العام 2011، تحول بعض الكتّاب الذين كانت تحتل كتبهم قوائم "الأعلى مبيعاً"، إلى قادة للرأي العام. للحظة، شعرتُ أن شبح الخوف يرفع ظله عن الأدب العربي، كان هناك هواء ولغة جديدة يتحدث بها الناس في الإنترنت، ثم فجأة بدأ الجميع يتساءل: أين أدب الثورة؟ وقبل أن يطل الأدب الثوري برأسه، هُزمت الثورة المصرية، مثل كل الثورات، وانتهت الفرجة الصغيرة التي أُتيحت للأدب المصري والعربي. استعادت السلطة السيطرة على أدوات الانتاج الفني والثقافي، وحالياً تمتلك السلطة في مصر حوالى 90% من القنوات التلفزيونية والصحف والمواقع الإخبارية. أما النسبة الباقية، فمحجوبة.

منفيون، مسجونون، أو ممنوعون من الكتابة والنشر.. هذا هو الوضع الحالي للكثير من الكتّاب المصريين والعرب. 

رجاء عالم، الكاتبة السعودية الحاصلة على جائزة "بوكر العربية"، أعلنت مؤخراً أن الترجمة الألمانية لروايتها الأخيرة "سراب" ستصدر بالألمانية والانكليزية قبل أن تصدر الطبعة العربية. كما لم يتم تحديد موعد لصدور الأصل العربي للرواية. فالرواية تدور حول حصار الكعبة العام 1979، حينما استولت مجموعة من المتطرفين على الحرَم المكّي العام 1979، وانتهى الأمر باستخدام السلاح والمدفعية وفوضى دموية غامضة في البقعة الأقدس لدى المسلمين. من الطبيعي أن تكتب رجاء عن هذا الحدث، الذي شكل بالتأكيد جزءاً من طفولتها، لكنه يظل نقطة غامضة في تاريخ المملكة السعودية، وخطاً أحمر لا يجوز التحدث عنه أو الإشارة إليه، لذا ستؤجل رجاء نشر روايتها باللغة العربية. 

علاء الأسوانى الكاتب المصري الذي كانت غالبية دور النشر تتسابق على نشر رواياته، لم يستطع نشر روايته الأخيرة "جمهورية كأن" في مصر. والسبب أن الرواية تتناول ثورة 25 يناير، من خلال عدد من الشخصيات أحدها جنرال عسكري كبير. لذا تهربت دور النشر المصرية من نشرها، خوفاً من غضب السلطة، وانتهى الأمر بنشر رواية علاء في بيروت. ورغم موضوعها المصري، فالرواية ممنوعة من دخول مصر.

أما آخر ألعاب الرقابة والتضييق على الكتّاب، فهو ما حدث مع عز الدين شكرى فشير، صاحب الروايات الناجحة، وإحداها تحولت إلى مسلسل تلفزيوني يعرض حالياً، بعنوان "أبو عمرو المصري"، وحُذف اسمه من "تتر" المسلسل، كما تم تغيير أحداث الرواية لتناسب الرؤية السياسية الحالية للسلطة الحاكمة.

كل يوم، هناك أشكال جديدة من الرقابة والتضييق، والرقابة تتحول إلى شبح. تختفي الخطوط الحُمر، ولا أحد يعرف ما المسموح وما المحظور. يتحرك الكاتب على أرجوحة الخوف، فتدفعه أحياناً إلى إخفاء ما يفكر فيه، ليستخدم الرمز والإشارة، بدلاً من الإعلان والتصريح. وفي أحيان أخرى، يدفعه الخوف إلى الاندفاع إلى ضجيج الانترنت والسوشيال ميديا، والتحول إلى بوق سياسي يندد وينتقد. وفي المنتصف، تختفي الأسئلة الفنية، ويتضاءل النقاش حول الأدب نفسه وجمالياته. هناك شبح أسود عظيم يحوم حول هذه البلاد، وأنا هنا، في المنفى، أبحث عن وسيلة للاختفاء عن أنظاره، أو الهرب من سلطانه.
 

المدن

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية