للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

الأدب العربي بين المرصفي والبارودي

رشيد سكري

 

لا حديث عن نهضة آداب اللغة العربية، بدون الحديث عن رواد أسسوا منهاج تلقي العلوم الحديثة، وساهموا في بناء الفكر الأدبي الحديث، كما أن لهم امتدادا وازنا في الأدب المعاصر، عن طريق تناولهم القضايا الأدبيَّة الكبرى والسِّجالات التاريخية حول تجديد الشعر العربي القديم وعلوم اللغة والبلاغة العربية.

من المؤكد جدا، أن أواخر القرن التاسع عشر كان بمثابة الانطلاقة الفعلية نحو تجديد البنى الثقافية، ومعانقة النهضة الفكرية في الأدب العربي، علاوة على الانخراط الفعلي في رسم خريطة الصحوة الأدبية الحقيقية. والفضل كل الفضل يعود إلى تطور فن الطباعة الحديث، بعد حدث اكتشاف مطبعة بولاق الأميرية. إن من بين هؤلاء الرواد الأشاوس، الذين انخرطوا في وطيس بعث التراث الأدبي والفكري العربيين نجد: الشيخ حسين أحمد المرصفي في النقد ومحمود سامي البارودي في الشعر.
من الصدف أن يعيش هذين العملاقين في زمن ثقافي واحد، وأن يعودا إلى التراث العربي القديم؛ كي ينهالا عليه بالدرس والتحليل؛ لاستخلاص العبر والدروس، والوقوف على أسسه المتينة، التي تضمن العبور الآمن نحو النهضة الشاملة في الفكر والأدب. فكان لحملة نابليون بونابرت على مصر، في نهاية القرن الثامن عشر، دور مهم في بعث الحياة الثقافية والفكرية، وجعلها أحد المنابع الصافية لتذوق الفن في الآداب العالمية. بمقتضى ذلك، كان التخلي عن الإسفاف والرَّطانة في التعبير، خصوصا النثر الفني، من أبرز العوامل، التي دفعت نحو الإقلاع الحقيقي للتجديد. علاوة على الاتصال المباشر بثقافة الغرب عن طريق البعثات الطلابية، التي كان لها رأيٌ آخرُ بخصوص المقاربة الجديدة، التي يجب أن يحظى بها الفكر والأدب. بالموازاة، استطاعت هذه البعثات أن تخلق خطوط التماس الثقافي والأدبي بين الشرق والغرب، لا سيما بعد الاحتكاك والتمرُّس، الفعلي، بالجمال الفني في الشعر والنثر، الذي تقوم عليه الحضارة الغربية. وفي المسعى ذاته كانت أصوات ملأت الدنيا وشغلت الناس حول الوظيفة، التي يجب أن يضطلع بها الأدب الحديث؛ خصوصا عندما بدأت الشعوب المستضعفة في العالم الثالث تدخل براثن القتامة الاستعمارية. فما كان للأدب إلا أن يعبر عن المعاناة والمكابدة جرَّاء فقدان الوطن، وأن يكون وسيلة للتعبير عن تجربة الضياع والهجرة الجماعية للأدباء والمفكرين نحو أوروبا وأمريكا؛ مدافعين عن أدب ميْسمه الحرية والثورة، وبعث اللغة العربية من جمودها؛ باستنبات صيغ وتعابيرَ ممتدة في الخيال والشعور.
 
إن لحدث ظهور حسين أحمد المرصفي، كناقد، وقعا كالزلزال على الثقافة والفكر في مصر. وأحد أعلامها البارزين في علوم اللغة والأدب والبلاغة. ففيما كان ينهلُ المرصفي من معين العلم والمعرفة، من جامعة الأزهر العتيدة، ذاع صيته بشكل لافت للنظر، بل أصبح حديث، كل مشايخ الأزهر، عن صبي ضـــرير من المراصـــفة ملأ السَّمع والبصر؛ وعن ذكائه وفطنته وتفوقه على سائر أقرانه. وأمام اشـــتداد عوده وإبانة عن علو كعبه ونجابته في التفوق والاجتهاد تولى التدريس في جامعة الأزهر. فأصبحت محاضراته محجا حقيقيا لكل طلاب العلم والمعرفة. وعلى هذا النحو كان المرصفي يحاضر على شاكلتين؛ في علم الأدب تارة وفي علمي التفسير والحديث تارة أخرى. ولهذا الغرض كان يستقطب مجموعة من الطلبة من مختلف المشارب المعرفية، فضلا عن محاضراته، كما أشار محمد مندور في كتابه «النقد والنقاد المعاصرون»، التي كانت تلقى في يومي الأحد والأربعاء من كل أسبوع. لهذا الغرض، كانت هذه الدروس، التي كان يلقيها المرصفي في مدرجات جامعة الأزهر، بمثابة الشرارة الأولى، التي ساهمت في إنشاء مدرسة دار العلوم المصرية.
إن لهذا الحدث صدى في كل أنحاء المعمورة، فانفتحت الحياة الثقافية المصرية على علوم الأدب الحديثة، متجاوزة العلوم الشرعية، التي كانت تروج لها جامعة الأزهر. غير أن هذه المغامرة، غير محسوبة العواقب، لاقت مقاومة شرسة من داخل الأزهر نفسه، حيث لم يستسغ علماؤه أن يُسْحب البساط من تحت أقدامهم، وأن تجاري دار العلوم جامعتهم في البحث والدراسة والإشعاع. وأكثر من هذا كانت لدار العلوم يد سابغة في إخراج الأدبَ الحديث من عنق الزجاجة إلى العامة، بل أصبحت المواضيع، التي كانت حِكرا على جامعة الأزهر، تتنعَّم بالحرية؛ وانفسح أمامها بابٌ جديدٌ للبحث والتأمل والاستقصاء. وبمقتضى ذلك، رأت النور بصياغة أدبية ممشوقة، وبأسلوب غير مسبوق من الكتابة عن التاريخ العربي وعن الإسلام؛ استساغها القراء، وأقبلوا عليها بنهم.
وبالموازاة، كان للمرصفي قصَب السبْق في تحرير الخطاب الديني من احتكار التقليد، انطلاقا مما خلفه من دخائرَ نفيسة، جمع فيها بين المضمون الاجتماعي والقومي المتمثل في الحرية والوطن والعدالة والسياسة.
إن «زهرة الرسائل» و«الكلمات الثمان» و«الوسيلة الأدبية للعلوم العربية» كنوز تركها الشيخ لتـُسنـِّمُه مصاف المجددين الأكفاء في الثقافة والأدب. وما كان الجيل الثقافي من بعده سوى امتداد شرعي لأفكاره وتوجّهاته وتوجّساته، إذ ساروا على دربه؛ بتحريرهم الخطاب الديني من الهيمنة التي أضرت بالفكر والدين والأمة، وعلى رأسهم محمود تيمور في مجموعاته الأولى «الشيخ سيد العبيط» و«الشيخ جمعة». لتأتي، بعد ذلك، دراسات جادة لكل من محمد حسين هيكل في كتابه الرَّائد «حياة محمد»، وعباس محمود العقاد في «العبقريات»؛ لتحتل العقلانية والتبصر مساحة كبيرة من حياة الناس. والحالة هذه، تسلم عميدُ الأدب العربي طه حسين، باعتباره تلميذ المرصفي، مشعل هذا التوجه الجديد في التأليف والإبداع، من خلال إسلامياته «على هامش السيرة» و«الشيخان» و«المعركة الكبرى»، جاعلا من الخطاب الحداثي جزءا لا يتجزأ من الخطاب الديني.
 
إن للبعد النقدي في حياة الشيخ المرصفي منازل َمتعددةً، لاسيما في كتابه المتميز «الوسيلة الأدبية للعلوم العربية»، حيث ضم بين دفتيه محاضراته النقدية، التي ألقاها على طلبة دار العلوم. وعبرها رسم لطلابه السَّمْت الصحيح لتذوق الإبداع الأدبي، مؤكدا على البعد الفني الجمالي، من خلال خلق استعارات وتشبيهات، علاوة على تصيد المحسنات البديعية، التي تغني الصُّور الأدبية، والإئتلافات بمختلف ألوانها، وتنأى به ـ أي البعد الفني ـ عن التقريرية الجامدة. وفي الاتجاه ذاته، قارب محمد مندور في كتابه النقدي «النقد والنقاد المعاصرون» الوسيلة الأدبية للشيخ المرصفي من خلال «الأورجانون»؛ مجموع كتب الفيلسوف أرسطوطاليس، حيث إنها الوسيلة والأداة للتفكير والفهم الفلسفي والنقدي.
لا ندخل عالم محمود سامي البارودي الشعري، إلا عبر بوابة النهضة والتجديد والنفي الذي لحقه. انحدر البارودي من عائلة تدور في فلك المدارس الحربية، تفتقت شاعريته منذ نعومة أظفاره، حيث اطلع على الكثير من الدواوين الشعرية؛ خصوصا شعراء العباسيين، مستبينا حكمتها ومتذوقا أسلوبها الرصين في التصوير الشعري الجيد والمتين. لم تقتصر مغامرته على الشعر العربي وحسب، بل قرأ روائع الشعر الفارسي والتركي؛ ليكون ذلك حدثا مهما، مهَّد لمرحلة مهمة في تاريخ الشعر العربي؛ ألا وهي مرحلة تجديد البنى في القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة.
عرف البارودي بلقب «شاعر السَّيف والقلم»، انخرط في العمل السياسي، مساندا ثورة أحمد عرابي ضد فساد حكم الخديوي توفيق ؛ فنـُفي جرَّاء هذا النشاط إلى جزيرة سرنديب فسلخ فيها ما يقارب سبعة عشر عاما. كان لها كبير الأثر في مسيرته الأدبية، لاسيما أنه راسل خلالها كبار الأدباء، وأنشد العديد من القصائد تلهج بالشوق والحنين إلى الوطن. ومن أشهر قصائده في هذا الباب قصيدة «رسالة إلى الوطن» من البسيط، مطلعها:
سمعت صوتك منسابا إلى أذني حتى أهاج بصدري كامن الشجن
تربَّع البارودي على عرش مدرسة البعث والإحياء، التي تنادي بضرورة الاهتمام بالشعر العربي، والارتقاء به إلى مصاف الشعر الغربي. ولهذا السبب كان الإبداع الشعري دعامة أساسية، ومفتاح سبل الحداثة، التي يتوهَّج عندها المبدعون؛ من شعراءَ ونقادٍ.
لقد كانت الدُّربة والمِران من الوسائل الأساسية، التي ركز عليها المرصفي في محاضراته في دار العلوم، مستهدفا بها طلبته، الذين تستهويهم الميول الشعرية، رافضا بذلك التعريف العروضي للشعر، وبذلك سحب البساط من تحت أقدام أمهات المصادر في تاريخ الشعر العربي، التي بنت الثقافة العربية بالإسمنت المسلح، إذ يعرِّف قـُدامة بن جعفر الشعر في كتابه «نقد الشعر» بما يلي: «الشعرُ كلامٌ موزون ومقفى يدل على معنى» إن هذا التعريف العروضي للشعر، في نظر المرصفي، لم يشمل الملكة، التي تـُصْقل بالدُّربة والمِران. فما كان البارودي إلا شاعرا حفـَّاظا للشعر، نسَّاجا على غرار الأقدمين. ففي محاضراته كان المرصفي يستدل بالبارودي، بفضل رهافة سمعه وتصيُّده الكلام الموزون، بل تعقـَّل تراكيب اللغة العربية، وفنونها عن طريق جـِبـِلة الحفظ والتذكر. وبمقتضى ذلك، ظل البارودي وسيلة في يد المرصفي، ومعبرا آمنا إلى نقد أمهات المصادر في تاريخ الأدب العربي، بل أسس نهضة جديدة تقوم على تجاوز الثوابت وإحلال بدلها المتغيرات، فضلا عن بعث الصناعة في النثر والشعر عن طريق استثارة الملكات والمواهب لرواد الثقافة والأدب في ما بعد.
 

القدس العربي

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية