|
|
معايير نقد الشعر عند الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه – 3
أ.د. محمد عبد الله سليمان
ثالثا : المعيار الفني :
هو أن نواجه الأثر الأدبي بالقواعد والأصول الفنية المباشرة ، وهو منهج ذاتي موضوعي وهو أقرب المناهج إلى طبيعة الأدب ،وطبيعة الفنون على وجه العموم، ويقوم هذا المنهج أولاً على التأثر ، ولكي يكون هذا التأثر مأمون العاقبة في الحكم الأدبي يجب أن يسبقه ذوق فني رفيع ، ويعتمد هذا الذوق على الهبة الفنية اللدنية وعلى التجارب الشعورية الذاتية ، ولابد كذلك من خبرة لغوية وفنية وموهبة خاصة في التطبيق وهذا المعيار هو الذي اعتمده الخليفة عمر علاوة على المعيار الذوقي والمعيار الأخلاقي . لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه عالماً بالشعر وكان من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة . وفى حديث عمر أن العباس سأله عن الشعراء فقال: "امرؤ القيس سابقهم، خسف لهم عين الشعر ، فافتقر عن معان عور أصح بصراً. أي أنبطها وأغزرها لهم، من قولهم خسف البئر، إذا حفرها في حجارة فنبعت بماء كثير، يريد أنه ذلل لهم الطريق إليه، وبصرهم بمعانيه، وفنن أنواعه وقصده، فاحتذى الشعراء على مثاله، فاستعار العين لذلك" . " وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من خير صناعات العرب الأبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته، يستنزل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم.
حدثنا علي بن مجاهد، عن هشام بن عروة، قال: سمع عمر بن الخطاب رحمه الله رجلا ينشد:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد
فقال عمر: ذاك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأنشد رجل عمر بن الخطاب، رحمه الله، قول طرفة:
فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى وجدّك لم أحفل متى قام عوّدي
فقال عمر: " لولا أن أسير في سبيل الله، واضع جبهتي لله، وأجالس أقواما ينتقون أطايب الحديث كما ينتقون أطايب التمر، لم أبال أن أكون قد متّ" .
ولقد أنشدوه شعرا لزهير- وكان لشعره مقدّما- فلما انتهوا إلى قوله:
وإن الحقّ مقطعه ثلاث يمين أو نفار أو جلاء
قال عمر كالمتعجب من علمه بالحقوق وتفصيله بينها، وإقامته أقسامها:
وإن الحق مقطعه ثلاث يمين أو نفار أو جلاء
يردّدن البيت من التعجب.
ذكر أبو عبيدة عن الشعبي يرفعه إلى عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في سفرٍ فبينا نحن نسير قال: ألا تزاملون؟ أنت يا فلانٌ زميل فلان، وأنت يا فلانٌ زميل فلان، وأنت يا ابن عباس زميلي؛ وكان لي محباً مقرباً، وكان كثيرٌ من الناس ينفسون علي لمكاني منه، قال: فسايرته ساعةً ثم ثنى رجله على رحله، ورفع عقيرته ينشد:
وما حَمَلَتْ مِنْ ناقةٍ فوقَ رَحْلِها أَبَرَّ وأَوْفَى ذِمَّةً من مُحَمّدِ
ثم وضع السوط على رحله، ثم قال: أستغفر الله العظيم، ثم عاد فأنشد حتى فرغ ثم قال: يا ابن عباس! ألا تنشدني لشاعر الشعراء! فقلت: يا أمير المؤمنين! ومن شاعر الشعراء؟ قال: زهير! قلت: لم صيرته شاعر الشعراء؟ قال: " لأنه لا يعاظل بين الكلامين، ولا يتتبع وحشي الكلام، ولا يمدح أحداً بغير ما فيه ". قال أبو عبيدة: صدق أمير المؤمنين، ولشعره ديباجةٌ إن شئت قلت شهدٌ إن مسسته ذاب، وإن شئت قلت صخرٌ لو رديت به الجبال لأزالها.
ثم قال ابن سلام على عقب هذا الكلام: قال أهل النظر: كان زهير أحصفهم شعراً، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من المنطق، وأشدهم بالغة في المدح .
وقال عمر رضي الله عنه لبعض ولد هرم بن سنان: أنشدني ما قال فيكم زهير، فأنشده، فقال: لقد كان يقول فيكم فيحسن، قال: يا أمير المؤمنين إنا كنا نعطيه فنجزل، قال عمر: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم. وقد اعتمد الخليفة عمر في معياره الفني على ثلاثة عناصر أساسية هي : تجنُب المعاظلة وتجنُب حوشي الكلام والصدق الفني:
أولاً : تجنُب المعاظلة :
المعاظلة :" هي كون الكلام خفيّ الدّلالة على المعنى المراد به بحيث تكون الألفاظ غير مُرتبة على وفق ترتيب المعاني. وينشأ ذلك التّعقيد من تقديم أو تأخير أو فصل بأجنبي بين الكلمات التي يجب أن تتجاور ويتصل بعضها ببعض وهو مذموم: لأنه يُوجب اختلال المعنى واضطرابه، من وضع ألفاظه في غير المواضع اللّائقة بها - كقول المتنبي :
جفخت وهم لا يجفخونَ بهابهم شيمٌ على الحسَب الأغر دلائل
أصله - جفخت (افتخرت) بهم شيمَ دلائل على الحسب الأغر هم لا يجفخون بها.( ) وتحدث قدامة عن (المعالظة ) فقال: وهي التي وصف عمر بن الخطاب زهيراً بمجانبته لها أيضاً، فقال: وكان لا يعاظل بين الكلام.وسألت أحمد بن يحيى عن المعاظلة، فقال: مداخلة الشيء في الشيء، يقال: تعاظل الجراداتان، وعاظل الرجل المرأة: إذا ركب أحدهما الآخر. وإذا كان الأمر كذلك، فمحال أن ينكر مداخلة بعض الكلام في ما يشبهه من بعض، أو في ما كان من جنسه، وبقي النكير إنما هو في أن يدخل بعضه في ما ليس من جنسه وما هو غير لائق به، وما أعرف ذلك إلا فاحش الاستعارة، مثل قول أوس بن حجر:
وذات هدم عار نواشرها تصمت بالماء تولباً جدعاً
فسمى الصبي: تولباً، وهو ولد الحمار .
فمن سوء النّظم المعاظلة، وقد مدح عمر بن الخطاب رضى الله عنه زهيرا لمجانبتها. فقال: كان لا يعاظل بين الكلام؛ وأصل هذه الكلمة من قولهم: تعاظلت الجرادتان إذا ركبت إحداهما الأخرى ... ؛ فمن المعاظلة قول الفرزدق:
تعال فإن عاهدتنى لا تخوننى تكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وما يختل به المعنى ويضطرب، ذلك هو التعقيد اللفظي - أو المعاظلة ، كتقديم الصفة على الموصوف، والصلة على الموصول، أو نحو ذلك من الأنواع التي خرجت عن الفصاحة - ومنها قول الفرزدق.
إلى ملك ما أمه من محارب أبوه ولا كانت كليب تصاهره
فتقديره: إلى ملك أبوه ما أمه من محارب، أي ما أم أبيه منهم، ولا شك أن هذا لا يفهم من كلامه للنظرة الأولى، بل يحتاج إلى تأمل وتريث ورفق، حتى يفهم المراد منه. ومن المعاظلة اللفظية قول القائل :
وقبر حربٍ في مكانٍ قفر وليس قرب قبر حربٍ قبر
ثانيا : تجنُب حوشي الكلام :
الحُوشِيُّ، بالضَّمِّ: الغَامِضُ المُشْكِلُ من الكَلامِ، وغَرِيبهُ ووَحْشِيُّهُ، ويُقَالُ: فلانٌ يَتَتَبَّعُ حُوْشِىَّ الكَلامِ، وعُقْمِىَّ الكلامِ. بمَعْنىً وَاحِدٍ، وكانَ زُهَيْرٌ لَا يَتَتَبَّعُ " حُوشِىَّ الكَلامِ". وَمن المَجازِ: الحُوْشِىُّ: المُظْلِمُ الهَائِلُ من اللَّيالِي، قالَ العَجّاجُ:
حتّى إِذا مَا قَصَّر العَشِيُّ عَنْهُ وَقد قابلَهُ حُوْشِىُّ
أَيْ لَيْلٌ حُوشِىٌّ، أَي عظيمٌ هائلٌ. وَمن المَجاِز: الحُوشِىّ: الوَحْشِيُّ من الإبِلِ وغَيْرِها يُقَال: إِنَّه مَنْسُوبٌ إِلَى الحُوشِ، بالضّمّ، وهُو بِلادُ الجِنِّ، منْ وراءِ رمْل يَبْرِينَ، لَا يُمُّر بهَا أَحَدٌ من الناسِ، وقِيلَ: هُمْ من بَنِي الجِنِّ، قَالَ رُؤْبَةُ: "إلَيْكَ سَارَتْ من بِلاَدِ الحُوشِ". وَقيل: الحُوشِيَّةُ: إِبِلُ الجِنِّ. وَقيل: هِيَ الإبِلُ المُتَوَحِّشةُ. أَوالحُوشِيَّةُ: منسوبةٌ إِلَى الحُوشِ وَهِي فُحُولُ جِنٍّ، تَزْعُم العَرَبُ أَنَّهَا ضَرَبتْ فِي نَعَمِ بَنِي مَهْرَةَ بن حَيْدانَ، فَنَتَجَت النّجائبُ المَهْرِيَّةُ من تِلْك الفُحُولِ الوَحْشِيَّةِ فنُسِبَتْ إِلَيْهَا، فهيَ لَا تكادُ يُدْرِكُهَا التَّعَب .
وتحدث قدامة عن "عيوب اللفظ " فقال : أن يكون ملحوناً وجارياً على غير سبيل الإعراب واللغة، وقد تقدم من استقصى هذا الفن، وهم واضعو صناعة النحو، وأن يركب الشاعر منه ما ليس بمستعمل إلا في الفرط، ولا يتكلم به إلا شاذاً، وذلك هو الوحشي الذي مدح عمر بن الخطاب زهيراً بمجانبته له وتنكبه إياه، فقال: كان لا يتبع حوشي الكلام. وهذا الباب مجوز للقدماء، ليس من أجل أنه حسن، لكن لأن شعرائهم من كان أعرابياً قد غلبت عليه العجرفية، وللحاجة أيضاً إلى الاستشهاد بأشعارهم في الغريب، ولأن من كان يأتي منهم بالوحشي لم يكن يأتي به على جهة التطلب له، والتكلف لما يستعمله منه، لكن لعادته وعلى سجية لفظه.
فأما أصحاب التكلف لذلك، فهم يأتون منه بما ينافر الطبع وينبو عنه السمع، مثل شعر أبي حزام غالب بن الحارث العكلي وكان في زمن المهدي، وله في أبي عبيد الله كاتب المهدي قصيدة أولها :
تذكرت سلمى وإهلاسها فلم أنس والشوق ذو مطرؤه
ثالثا ً: الصدق الفني :
"لايمدح الرجل إلا بمافيه " هذه العبارة بقدر ما أنها تحمل قيمة أخلاقية إلا أنها تحمل قيمة فنية أيضاً وهي مايعرف في النقد الحديث " بالصدق الفني " ويشمل صدق العبارة وصدق العاطفة وتحدث ابن طباطبا في كتابه عيار الشعر عن صدق العبارة قائلاً :" فإذا وافقت هذه الحالات، تضاعف حسن موقعها عند مستمعها، لا سيما إذا أيدت بما يجذب القلوب من الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة فيها، والتصريح بما كان يكتم منها، والاعتراف بالحق في جميعها " .وهذا يشبه ما نسميه " الصدق الفني " أو " إخلاص " الفنان في التعبير عن تجربته الذاتية. والعاطفة تعد عنصرا هاما وأساسيا من عناصر التجربة الشعرية فالعاطفة هي " تلك القوة النفسية التي تثيرها مؤثرات وميول خارجية مختلفة، فتظهر في صورة انفعالات شتى كالحب والبغض والسرور والحزن والرجاء والخوف والوفاء، وهي بهذا من دواعي الشعر التي تهيجه، وينابيعه التي ينبجس منها " ولايتحقق الصدق الفني إلا بصدق العاطفة "وهي أن ينقل الشاعر في صوره الأدبية ما يمتزج بحسه ووجدانه وما يتصل بشعوره وخواطره حتى يتحقق الصدق الفني في التصوير"
" وعُدَ نقد الخليفة عمر بن الخطاب في صدر الإسلام لزهير ابن أبى سلمى حين قال : إنه شاعر الشعراء ، ثم علل هذا الحكم بقوله : لأنه كان لايعاظل في الكلام ، وكان يتجنب وحشي الشعر ، ولم يمدح أحدا إلا بما هو فيه . عد هذا فلتة سابقة لأوانها في النقد العربي . لأنها فيما يلوح كانت أول تعليل يتوسع في بيان أسباب الحكم الأدبي "
|
|
|
|
|