|
|
التأثير القرآني على الصورة اللونية في شعر التجاني يوسف بشير
أ.د. محمد عبد الله سليمان
التجاني يوسف بشير رائد التجديد في الشعر السوداني ، ولد بحي الركابية بأم درمان ، بمنزل كائن بالقرب من شارع كرري ، ويجاور حي المسالمة ، سنة 1912 ، حفظ القرآن يافعا في خلوة عمه عبد الوهاب الكتيابي ، ثم التحق بالمعهد العلمي ، ودرس فيه علوم اللغة العربية والعلوم الإسلامية ، أدمن الاطلاع فقرأ كتب الأدب والتاريخ والتصوف ، عمل كاتبا ومدققا لغويا في الصحف في عصره ، من آثاره الأدبية ديوان إشراقه ومقالات في الأدب والنقد تنم عن نفس شفافة ، ورؤية نقدية ثاقبة ، عانى الفقر طوال حياته ، وأصيب بداء الصدر فأودى به بعد صراع مرير وهو في ريعان الشباب ، عام 1937.
لقد ترك القرآن الكريم أثرا عميقا في شعر التجاني يوسف بشير من حيث الأساليب ، والمعاني ، والمضامين ، والصور ، وقد استفاد الشاعر من هذه الأساليب والمعاني القرآنية ووظفها في خدمة بناء قصيدته الشعرية فجاءت قصيدته جزلة ، متينة ، سلسة ، عميقة ، ويرجع كل ذلك إلى البيئة القرآنية التي نشأ فيها الشاعر ، واهتمت بالقرآن الكريم وتحفيظه مما حفز الشاعر للارتباط بالقرآن ، وقد أحدث ذلك أثراً بالغاً في تشكيل قاموسه الشعري ، وذخيرته اللغوية ، والأسلوبية ، مما جعله يمتلك طاقة تعبيرية وتصويرية هائلة مكنته من صياغة شعره بطريقة أسلوبية متميزة ، ولاغرو في ذلك لأن القرآن هو المنبع الصافي ، والبيان الوافي ، بل هو أعلى قمة لغوية وبلاغية على الإطلاق .
وشاعرنا التجاني في تأثره بالقرآن أسلوبًا ومضمونًا وتراكيباً لم يقتبس على الطريقة البلاغية القديمة في الاقتباس – وذلك ، كأن ينقل الآية أو جزءًا منها كقول ابن الرومي:
لقد أنزلت حاجاتي بواد غير ذي زرع
بل كان يستفيد من القرآن وأساليبه ، ويستخدم هذه الاستفادة بعد هضمها باتجاه الآية ، أو بمعنى آخر ينشده .
وقد كان للقرآن الكريم الأثر البالغ في تشكيل صورة التجاني اللونية ، وهي صورة متميزة ، فاللون في شعره يحمل دلالات دينية ونفسية وفكرية عميقة ، وقد تناول الألوان الأخضر ، فالأبيض ، فالأسود ، فالأحمر ، فالخمري فالداكن على الترتيب . وهذا الجدول يرصد استعماله للألوان بحسب نسبها في ديوانه ( إشراقة ) :
اللون العدد
الأخضر 10
الأبيض 9
الأسود 6
الأحمر 4
الخمري 1
الداكن 1
ولعلنا نلحظ أن اللون الأخضر هو المتفوق ونعزي هذا التفوق إلى تأثير البيئة الدينية التي نشأ فيها الشاعر، فاللون الأخضر عادة ما يعجب أهل الإسلام فيجعلونه رمزا للسلام والرخاء والفأل الحسن ، متأثرين في ذلك بمدلولات معاني الخضرة التي وردت في القرآن الكريم ، وارتبطت بالطمأنينة والسعادة ، كما في قول الله تعالى : ﴿ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾ الإنسان ، 21 ـ 22 وفي قوله تعالى : (أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) الكهف : 31 ومن ذلك قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الأنعام : 99 يقول ابن كثير في تفسيرقوله تعالى : (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً) أي زرعاً وشجراً أخضراً ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر.
فانظر عزيزي القارئ إلى هذه الصورة الرائعة التي يرسمها التجاني بريشته ويلونها بالأخضر في الأبيات التالية فالنيل تكسوه الخضرة وتحتضنه الملائكة ذات الأجنحة الخضراء ، فاجتمعت في الصورة خضرتان ، خضرة النيل وخضرة أجنحة الملائكة ، فهو يلون لوحته بلون واحد ولكنها تبدو في قمة الحسن والبهاء .
أَنتَ يا نَيل يا سَليل الفَراديس نَبيل مُوَفق فـــي مَسابك
حَضَنتك الأَملاك في جَنة الخُـلد وَرقت عَلى وَضيء عبابك
وَأَمدت عَلَيك أَجنِحَة خَضراء وَأَضفَت ثِيابَها في رِحابك
ويشبه الروح بالطائر الغرد الذي له جناحان من نور وظلماء ، ويغادر خضراء لخضراء فلنتخيل هذه الصورة الرائعة صورة الطائر ذو الجناحين المكونين من السواد والبياض ، وتحتضنه الخضرة إنها صورة بديعة تسلب الألباب ، وتأسر القلوب .
الرُوح ما الرُوح إِلّا طائر غَرَد لَهُ جَناحان مِن نوروَظَلمــاء
كَطائر الرَوض إِلّا أَنَّهُ أَبَداً يَشدو هُنالك شَدو الحائر النائي
يَظَل يَهبط مِن دوح لمؤتلق وَقَد يُغادر خَضــراء لِخَضراء
واللون الأبيض عند التجاني يأتي بعد الأخضر مباشرة في الترتيب بفارق درجة واحدة ، ولعل هذا يعطينا مجالا للتفكير في التفاؤل والأمل القادم ، الذي ظل شعره يحمله في الغالب الأعم ، فرؤى الشاعر المتفائلة ملتفة في أجنحة بيضاء ، ويلبسن ثوبا وضيئا :
كَم تَظَل الرُؤى بِهِ شارِعات في يَنابيع مِـن جَلال نَدي
يَتلففن في جَوانح بَيضــاء وَيَسحبن مِن رِداء وَضي
وهذه الصورة اللونية مقتبسة من قوله تعالى :(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )آل عمران : 106 ـ 107 ، فابيضاض الوجوه في هذه الآيات دليل على السعادة والسرور واسودادها دليل على الحزن والكآبة ، ويقول تعالى: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) سورة النمل : الآية 12 ويقول ابن كثير " أي من غير برص ولا أذى ومن غير شين " ويقول تعالى:( يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ ، بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ، لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ) الصافات ، الآيات ، 45 ،46 ، 47 وجاء في تفسير ابن كثير " قال مالك عن زيد بن أسلم خمر جارية بيضاء أي لونها مشرق حسن بهي لا كخمر الدنيا في منظرها البشع الرديء من حمرة أو سواد أو اصفرار أو كدرة إلى غير ذلك مما ينفر الطبع السليم وقوله عز وجل ( لذة للشاربين ) أي طعمها طيب كلونها وطيب الطعم دليل على طيب الريح بخلاف خمر الدنيا .ويتضح لنا جليا من خلال الآيات السابقة أن اللون الأبيض هو رمز السلام والأمل والسعادة والسرور .
ويمتد هذا التأثير إلى قصائد أخرى ، فأجمل سنوات صبا شاعرنا هي تلك التي قضاها في معهده العلمي فهي سنوات وصفها بأنها بيضاء كناية عن السعادة والهناء :
وَدَعت غَض صِباي تَحتَ ظِلاله وَدَفنت بيض سني في مِحرابه
ويصف قصائده بأنها براقة الضفاف بيضاء كاللآلئ ذات لمعان وبريق في قصيدته المفتاحية في ديوانه ( إشراقة ) :
وَهِيَ بَراقة الضِفاف وَمَرموقة بيض اللآلئ البَراقَه
ويأتي التجاني بالصور التي تجمع بين اللونين الأبيض والأسود كهذه الصورة التي أراق فيها مزادته الملأى بالماء في صحراء ظامئة فانحدرت بيضاء كالروح دليل على الصفاء في صخرة سوداء ملساء صماء دليل على التعكير ، وهي صورة تعبر عن حالته النفسية المتأرجحة بين الصفاء والكدر :
غَررنَ بي وَبِحَسبي أَن رِاويَتي مَلأى هريقت عَلى ظَمَأى مِن البيد
أَفرَغتها وَبَرَغمي أَنَّها اِنحَدَرَت بَيضاء كَالروح في سَوداء صَيخود
أما اللونين الأحمر والأسود فيستخدمهما في المفاجع ، فعندما يبكى عزيزاً عليه اختطفته المنايا يذرف الدموع الحمراء تعبيراً عن الأسى والحزن :
لو لـم أَكُن أَخشى أثاماً دونَهُ لَهَرقت مِـن أَسَف عَلَيهِ محابِري
وَمَريت مِـن عَيني آخر عبرة حَمراء حَتّى مــــا أَكون بِقادر
وَتَلهبت ثؤر الأَسـى وَمَتى أشأ أَوقفت مِن فلك الزَمـــان الدائر
لَكن بِحَسب مُحَمَد مِـن ذلكم دَمع القَريض وَدَمع ذات مَحاجِري
و يقرن بين المنايا والسواد :
لِلمَنايا السود آما لي وَلِلمَوت رَجائي
وذكر اللون الداكن مرة واحدة لأجنحة الأوز في قصيدته ( توتي في الصباح ) :
وَفي الضِفاف أَوزّ دكن الجَوانح كَثر
وكذلك اللون الخمري لشمس الخرطوم " الخمرية المشرقة " :
وَشمسها الخَمرية المُشرِقه تَفرغ كَأس الضوء في بَدرِها
لقد أثّر القرآن الكريم تأثيراً بالغاً على الصورة اللّونية في شعر التجاني فاستخدم الألوان التي أكثر القرآن من استخدامها لاسيما اللون الأخضر الذي يحبذه أهل الإسلام ، وقد جعله الله لباسهم في الجنة .
|
|
|
|
|