|
|
عملية الإبداع الفني ..عوالم أخرى
أ.د. محمد عبد الله سليمان
عملية الخلق الفني إبحار في عالم آخر ، عالم اللاوعي واللاشعور فالمبدع عندما يغرق في عملية الخلق الفني يتجاوز حدود الزمان والمكان يغيب عن الوعي تماما في استغراق تام لإنتاج العمل الفني .
فالإبداع الفني يعني احتراق الذات ، والأعصاب ، وفوران الدم في حالة إجهاد ممتع تجعل المبدع يغوص في أعماق ذاته في استغراق جميل لاسيما إذا كان العمل الفني يمس أوتار النفس ، ويشف عن ذاتها ، ويسبر أغوارها كما في حالة القصيدة التي تتزاحم فيها العواطف والأخيلة والرؤى والأفكار ، وفكرة القصيدة إن لم تكن واضحة في نفس الشاعر، ومخيلته كانت كخيط العنكبوت تذهب به بغير هدى فيتعقد ولا يصل إلى شيء.
فتلك العناصر تهيمن على الشاعر لحظة الولادة القيصرية للقصيدة ومحاولة إفراغ المشاعر في لحظة عنيفة ، وأجواء مليئة بإنهاك العواطف ، وإجهاد الذهن إنها لحظات عصيبة على المبدع يجد نفسه في حالة من التوتر ، والقلق .
وكلما اشتدت الحدة الإنفعالية والوثبة التوترية عند الشاعر فإن القصيدة تولد حارة كحرارة عاطفته ، مفعمة بالمشاعر النبيلة ،والتعبيرات المحكمة ، والموسيقى العذية ، والخيال المتوازن ، واللغة الشاعرة .
فالشاعر يحترق كطائر الفينيق الأسطوري فيصبح رمادا ، ثم ينبعث مرة أخرى من بين أكوام الرماد ليكرر نفس المشهد فهو في احتراق مستمر من أجل التعبير عن خلجات الذات ،وإمتاع المتلقي وإفادته.
فحالة الكتابة الشعرية هي لحظة إيحائية حيث يدخل الشاعر في غيبوبة وسكرة ، فكلما كان اللاوعي مسيطرا كانت الصورة المبدعة غير متناهية ، وربما مستحيلة الإدراك.
بعض الشعراء يتركون القصيدة تمضي كما هي بعد الخروج من الحالة الشعرية ولايتدخلون فيما أنتجوه بعد ذلك فيدعونها بغضها وغضيضها ، فتبدو عليها غلبة الطبع .
أما البعض الآخرعند خروجهم من الحالة التي تنتابهم أثناء ثورة الكتابة ، وبعد أن ترجع إليهم عقولهم ، ويعودون إلى وضعهم الطبيعي يشذبون لغتهم ، ويضبطون عواطفهم ، ويصلحون ما أنتجته حالة اللاوعي في لحظة الوعي ، كما كان يفعل كبار شعراء العرب أمثال زهير والحطيئة فيحذفون ويضيفون وقد يأخذ منهم ذلك حولا كريتا . يقول الأصمعي :" زهير والحطيئة عبيد الشعر " ويقول الحطيئة "أفضل الشعر الحولي المحكك " .
. فأجود الشعر ماتكاملت فيه الصور ، وحسنت فيه اللغة ، ولامس الوجدان ، وهز المشاعر، وإلا فليس خليقا أن يقال له شعرا.
بعض القصائد يتفانى فيها الشاعر فتفنى فيها روحه فيستقبلها المتلقي بذات المشاعر والحرارة ، والألق الجميل .
فأجمل الشعر ماصدق فيه قائله ، وسمت فيه قريحته ، وذابت فيه مشاعره ، واتقد فيه فكره ، واتضحت فيه رؤيته .
فالشاعر منا ولكنه أعذبنا لحنا ، وأنفذنا بصيرة ، وأحلانا قولا . .
يقول سُوَيدِ بنِ كِراع معبرا عن معاناة الشاعر في لحظة الإبداع :
أبيتُ بِأَبوابِ القَوافي كَأَنَّما
أُصادي بِها سِرباً مِنَ الوَحشِ نُزَّعا
أُكَالِئُها حَتّى أُعرِّسَ بَعدَما
يَكونُ سُحَيرٌ أَو بُعَيدُ فَأَهجِعا
عَواصي إِلاّ ما جَعَلتُ أَمامَها
عَصا مِربَدٍ تَغشى نُحوراً وَأَذرُعا
أَهَبَت بِغُرِّ الآبِداتِ فَراجَعَت
طَريقاً أَملَّتهُ القَصائِدُ مَهيَعا
بَعيدَةَ شَأوٍ لا يَكادُ يَرُدُّها
لَها طالِبٌ حَتّى يَكِلَّ وَيَظلَعا
إِذا خِفتُ أَن تُروى عَلَيَّ رَدَدتُها
وَراءَ التَراقي خَشيَةً أَن تَطَلَّعا
وَجَشَّمَني خَوفُ اِبنِ عَفّانَ رَدَّها
فَثَقَّفتُها حَولاً حَريداً وَمَربَعا
|
|
|
|
|