شواعر السودان - 3
أ.د. محمد عبد الله سليمان
ثانيا: الصورة الفنية:
مازلنا نستطرد في القراءة النقدية لقصيدة الشاعرة بنونة بنت المك نمر، نتناول بعض جوانب الصورة الفنية فيها ، وقد حاول النقاد قديماً وحديثاً تعريف الصورة الفنية ولكنهم لم يتفقوا على تعريف مانع جامع؛ وذلك يعود إلى أن الأدب إبداع والإبداع متجدد في تقنياته ، والتجدد يتطلب إعادة صياغة تعريف المصطلح ، والاضافة إليه في كل مرة ، ولا مجال لاستعراض تعريفات النقاد من العرب والغربين للصورة الفنية في هذه العجالة ولعل أقرب التعريفات وجهاً - فيما يبدو لي- هو تعريف الدكتور داود سلوم في كتابه النقد الأدبي : " إن امتزاج المعنى والألفاظ والخيال كلها هو الذي يسمى بالصورة الأدبية ، ومن ترابطها وتلاؤمها والنظر إليها مرة واحدة عند نقد النص يقوم التقدير الأدبي السليم " ولي تعريفي الخاص للصورة الذي يحاول أن يجمع بين كل التعريفات التي اطلعت عليها فهي "امتزاج عنصر اللغة والأسلوب والخيال والموسيقى في نص أدبي ينقل فكرة الشاعر وعاطفته إلى المتلقي بدقة". وتعد الصورة الفنية - في رأينا- أقرب المسالك إلى سبر أغوار الشاعر والغوص في أعماق تجربته الشعرية ومعرفة سماته والفنية .
ويبدو لنا أن الشاعرة بنونة لها قدرة فائقة في رسم الصورة الفنية لاسيما الصورة الحركية والتي تتناسب مع موضوع قصيدتها في الحديث عن المعركة وحركة الكر والفر ، ووصف الخيل وقوتها ، وحركة الفرسان في ميدان المعركة فقد صورت الفرس في حركته وسرعته في حالة الكر يتقدم الصفوف وذلك يدل على الشجاعة والإقدام ، أما في حالة الفر فيكون في آخر الصف شاهداً على شجاعة راكبه وهذا ما قصدت به (مرنا مو نشيط إن قبلن شاردات) :
اٍن وردَن بجيك فــى أول الواردات
مِرنا مو نشيــط اٍن قَبلَن شــاردات
أسد بيشة المكرمد قمزاتو مطابقـات
قال امرؤ القيس :
وَقَد أَغتَدي وَالطَيرُ في وُكُناتِها
بِمُنجَرِدٍ قَيدِ الأَوابِدِ هَيكَلِ
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعاً
كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ
يُزِلُّ الغُلامَ الخِفُّ عَن صَهَواتِهِ
وَيَلوي بِأَثوابِ العَنيفِ المُثَقَّلِ
لَهُ أَيطَلا ظَبيٍ وَساقا نَعامَةٍ
وَإِرخاءُ سِرحانٍ وَتَقريبُ تَتفُلِ
امرؤ القيس أول من ابتكر الصورة الحركية عموما وللفرس خصوصا في شعرنا العربي، وربما لا يكون للشاعرة بنونة سابق علم بذلك، فما جادت به قريحتها مجرد توارد خواطر وتقاطع أفكار مع امرئ القيس ، ولكن جديد الفكرة عند الشاعرة أن فرس الممدوح يسرع في الكر ويبطئ في الفر فقد قصدت شجاعة الفارس فهو لا يولى الدبر وأن صاحبه دربه على هذا الفعل ، أما أمرؤ القيس فقد قصد أصالة الفرس وسرعته لذاتها في حالتي الكر والفر وهذه لفتة بارعة من الشاعرة وفكرة مخالفة فيها ابتكار وجدة وربما لو كانت تعرف وصفه للفرس لما استطاعت أن تخرج من دائرته ، وبالتأكيد هو أكثر معرفة بالحيوان منها فهو ابن الصحراء وهي ابنة النيل فجمع للفرس أحسن الصفات في الحيوانات الأخرى ، وقد شرح الزوزني قوله :
لَهُ أَيطَلا ظَبيٍ وَساقا نَعامَةٍ
وَإِرخاءُ سِرحانٍ وَتَقريبُ تَتفُلِ
" شبه خاصرتي هذا الفرس بخاصرتي الظبي في الضمر، وشبه ساقيه بساقي النعامة في الانتصاب والطول، وعدوه بإرخاء الذئب، وتقريبه بتقريب ولد الثعلب، فجمع أربعة تشبيهات في هذا البيت"، بينما شاعرتنا ركزت على السرعة والقوة فاكتفت بتشبيهه بأسد بيشة .
أما في قوله:
يُزِلُّ الغُلامَ الخِفُّ عَن صَهَواتِهِ
وَيَلوي بِأَثوابِ العَنيفِ المُثَقَّلِ
قال الزوزني "إن هذا الفرس يُزل ويُزلق الغلام الخفيف عن مقعده من ظهره ويرمي بثياب الرجل العنيف الثقيل، يريد أنه يزلق عن ظهره من لم يكن جيد الفروسية عالِماً بها ويرمي بأثواب الماهر الحاذق في الفروسية لشدة عدوه وفرط مرحه في جريه" ولعل شاعرتنا رمت إلى ذات المعنى في قولها :
وقارحك غير شكال مابقربو الشـداد
أي من أراد أن يقترب من فرس فارسها ليركبه لا يقوى على ذلك فهو صعب المراس إلا إذا كان معقولا.
كما يتضح لنا من خلال القصيدة أن الشاعرة لها قدرتها الفائقة على الوصف فوصفت درعه بأنه يلمع كالشمس ، ووصفت أخاها بأنه عقود السم كل من يقترب منه يلقى مصرعه .
وقد استخدمت الشاعرة الصورة البلاغية لاسيما الكناية التي أكثرت منها في قصيدتها ومن ذلك قولها :(ملاي سروجِن دم) كناية عن قتله للفرسان والاطاحة بهم، ودلت بذلك على قدرته وشجاعته ومهارته القتالية.
وفي قولها "الميتة أم رمــاداً شَــح ": كناية عن الموت في غير ميدان المعركة وكانت النساء قديماً إذا فقدن عزيزاً يحسون الرماد على رؤوسهن ووجوههن وهي عادة جاهلية قديمة كانت تمارس في السودان قديما، وتركت.
وقولها : " دايراك يــوم لِقـا بدمِيكَ تتوشــح " : كناية عن الموت في ميدان القتال ، وتعد هذه الكنايات مما ابتكرته وابتدعته الشاعرة.
فالشاعرة بنونة تكتب القصيدة بلغة معجمية ، وتمتلك طاقة تعبيرية وتصويرية هائلة ، وتستخدم أدوات كتابة الشعر ببراعة تامة تنم عن سليقة متوقدة ، وفطرة سليمة ، إضافة إلى قدرتها على الوصف ، وبناء الصورة الفنية .
نواصل
|