للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  دعوة للمشاركة والحضور           المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

مًنْ الذي صنع عبقرية أسلافنا من الشعراء ؟

د. سليمان علي عبد الحق

      الفن هو ذلك التعبير الإبداعي الراقي الذي يعبر عن رؤية المبدع لما يحسه ويدركه شعوره في لحظة فارقة من لحظات حياته ؛ ألا وهي لحظة الإبداع أو الخلق Creation ، فهي تلك اللحظة التي يمتزج فيها الوعي بغير قليلٍ من اللاوعي ، وتنفض عن مخيلة المبدع كلُّ أدران الإلف التي حجبت جمالياتٍ كثيرةَ عن موضوعات الإدراك من حولنا .
       ولا يقتصر هذا المفهوم السابق على فن دون غيره ، بل يشمل الفنون جميعاً ، لأنها تشترك في سمات عدة ؛ أولها : صدورها عن عبقرية خلاقة ، وآخرها : التأثير في جمهور المتلقين .
  وعندما نتساءل : من الذي صنع عبقرية شعرائنا القدامى ؟ ينبغي أن نلتفت إلى أن هناك فرقاً شاسعاً بين ما يسمى بالموهبة العامة ، وما يسمى بالعبقرية الخلاَّقة ؛ إذ إن الموهبة العامة موجودة لدى كثير من بني البشر ، وهي هبة من الله تعالى ، ولكنها لا تكفي وحدها لإنتاج عمل إبداعي راقٍ ، لأنها قد تعتمد على مجرد التنسيق بين الأشياء المتشابهة ، أو الجمع بين الأشياء المتنافرة عبر ما يسمى بقانون التداعي ؛ ذلك الذي يعتمد على آلية عقلية تكلف صاحبها ثمناً باهظاً من عناء التفكير والتذكر.
    أما العبقرية الخلاَّقة فهي خصيصة فنية تتكون بعد مرحلة صقل الموهبة العامة ، وتدريبها ، والقيام على رعايتها ، وهي تلك التي يصدر عنها الفن في أي شكل من أشكاله المعروفة : الشعر أو النثر ، أو الرسم ، أوالغناء ،أوالتمثيل ....إلخ . وأبرز أماراتها أن الفنان يستطيع أن يحتفظ بإحساسات الطفولة ، وعفويتها ، وهو في عنفوان رجولته ، فيرمق الأشياء من حوله بنظرة جديدة ، وكأنه يراها – كالطفل – لأول مرة ، فيحس فيها بغرابة ، وتقع عينه  منها على أمور مجهولة ، لم يألف رؤيتها من قبل ، بل يراها تتزيَّى بزي جديد .
    ومن أمارات هذه العبقرية أيضاً أن ما يصدر عنها من إبداع يكون فريداً في تأليفه ، فيصعب بل يستحيل تغييره أو نقله وترجمته إلى لغة أخرى ، دون أن يفقد كثيراً من إيحاءاته ، ودلالاته ، وارتباطاته المتشابكة التي تحافظ على تلاحمه شكلاً ومضموناً ، وإلى هذا أشار الناقد الإنجليزي "كولردج" في مؤلفه المعروف بــ"سيرة أدبية" .
     ومن خصائصها أيضاً أنّ من شأنها أن تؤلف بين الأشياء المتنافرة تأليفاً سوياً ، فتبدو وكأنها ولدت معاً ، ولذا فإن ما يصدر عن هذه العبقرية من إبداع لا يمكن أن يكون متفاوتاً ، أو به اختلاف أو عدم تناسب واستواء ، كما أنه يصعب تغيير بعض ألفاظه ، ولو بألفاظ ترادفها ، إذ إن القول الأصيل لا ترادف بين ألفاظه ، وإن حاولنا أن ننثر ألفاظ قصيدةٍ حقَّة ، أدركنا صعوبة هذا الأمر ؛ فكأننا نشرع في هدم بناءٍ منيفٍ ، فتتساقط أجزاؤه إلى الهاوية بلا رحمة .
    وهذه العبقرية الخلاقة هي التي صنعت شعراءنا القدامى من لدن العصر الجاهلي حتى عصرنا الحديث ، إذا كان لديهم هذه القوة الفنية التي تستطيع أن ترى الأشياء المألوفة لنا جميعاً ، جديدة ، وغير مألوفة ، فتحدث عندهم دهشة الأطفال ، عندما يرون شيئاً مهولاً لأول مرة ، وهنا تبدأ تلك القوة العبقرية عملها في إدراك هذا الشيء ؛ بأن تحذف بعض التفاصيل ، وتخفي ما لم يؤثر في إحساس المبدع ، وتركز على أشياء محددة في موضوع الإدراك ، حتى يولد هذا المولود الجديد الذي نسميه عملاً فنياً .
      وعلى الرغم من أن الأدب أو الإبداع سابق على النقد ، فإن للنقد دوراً مهماً في توجيه المبدع ، بل صناعته وشهرته أو الخسف به وبإبداعه معاً ، ولو دققنا النظر قليلاً إلى بعض فحول الشعر العربي ، كأبي تمام أو المتنبي أو أبي العلاء مثلاً ، لأدركنا أن ما أثير حول أشعارهم من نقد ، وما وجه لفنهم من سهام العيب والقدح ، سواء بحق أم بغير حق ، كان له دور كبير في صنع عبقريتهم ، واتساع مخيلتهم الشعرية ، حيث سعت إلى التنقيح والتحسين المستمر لما يبدعونه ، ولذا جاءت أشعارهم محكمة البناء ، قوية النسج ، تمتع الحس ، وتقنع العقل ، ولذا فليس غريباً أن نقول : إذا كان للشعراء الفضل في إبداع الشعر ، فإن للنقاد الفضل في صناعة الشعراء .


التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية